استراحة الوداع

عندما كان المساء سار ظلي باتجاه الصيف، حدقت طويلا في السماء لأستظلّ بنورها الباهت، استقليت هواجسي ورحت أصغي لأصوات الليل، نظرت لذلك الرجل الواقف أمامي، رجل فارغ القامة يتدلى شعره الطويل كليل صيفي حتى يغوص في صفحات السواد، وينفلت من رأسه يأبى الثبات، شدّني ذلك الصمت المحير حوله، والذي أصاب رجله اليمنى بالعدوى حتى غارت في الفراغ...إنه يشبه أحلامي، توجهت إلى محطة القطار مسرعا، لم يزل ذلك الرجل واقفا ورائي، لباسه الاسود يتقصى الرحيل، لقد انتقم السواد منّا أخيرا، سرت أتتبع أصوات ذلك الليل، دخلت المحطة...ركبت القطار فراعني ما رأيت...أبا جعفر يقف مهددا وأمامه أبا مسلم يتخبط في مخاوفه وينتقل من بقعة لأخرى من بقاع الذاكرة، لقد ارتجف الحرف أمامه...وارتطم الحبر معلنا عن تمرّد خاف...و اجتمعت الأزمان الحيرى واقفة على عتبات الجنون...

- ادّخرني لأعدائك يا مولاي.

-انفلت من بين يديه المنطق، رأيت عينيه تحدقان في السماء، يرتقب لحظة التحرر من قيود الحزم، و قد ابتلع كبرياءه، وانصرف تتبعه حفاوة الانكسار، و ذلك الزمن الذي اجتاح صوته سار نحو المغيب، التفت ورائي و إذ الرجل ما زال واقفا.

اخترت كرسيا قريبا منه، صوبت جسدي نحوه، لم أحس إلا و يدي تمتد إلى سيف أبي جعفر، فطعنت أول من صادفني في طريق توهاني، طعنت أحلامي فنزف الهر الذي كان جاثما على صدري، التفت إلى نافذة القطار و سددت أفكاري صوب القبة البيضاء التي رأيتها تنغلق على نفسها، يحاول السؤال أن يخترق احترازها فتأبى الانفتاح.

"هنيئا لصوتي المصلوب فوق جدار الهذيان...هنيئا لليلي الساكن في ضفاف الوجد، هنيئا لطلقاتي و أنغامي السافرة التي زفرتها الكلمات، لم يعد يومي الذي فات بعد، إنّني في انتظار (الحَكَم)، منذ أن رحل أقف على باب الشوق...أستطلع أخبار الغادين و الرائحين...و أحمل سيفي أترقب النسائم و أطارد أشباح الخريف".

لم يزل الرجل واقفا ورائي.

ظهر الصوت ينافس الحلول في روح الضياء الشرقي...انقطع فجأة ليضيف كشفا جديدا...فإذا السرور ينبثق من حالة الفراغ المكنّى مجازا باسم الحياة...

نور خافت دخل المقطورة ليصطدم بساعات الدهشة و لحظة الانبهار...لم يمسك نفسه...فقد تأصّلت حالة العدم في كل ركن..حتى بان الغروب عن تأهب لابتلاع الوجود و صهرها في بوتقة اللامعنى و المجاز...لم يكن الغروب ليغريني يوما...لأن عزائي الوحيد وجدته متربصا في قيلولة النجوم...رحلت خطاي باكية تستنجد بلحظات الذكرى، الذكرى التي تعلقت بأهدابي متمسحة بساعات الألم، هناك أديت الطواف الأخير...أين أعلنت عن حالة احتضار علمني الزمن كيف أؤديه بذكاء كونفيشيوسي...

أسرعت الخطى أتمشى في شوارع الذاكرة، و لم يزل الصوت يتبعني، ملت ناحية الخوف و لم يزل الصوت يتبعني، اقتفيت أثر الطعنة فوجدت نفسي واقفا أمام قصر الخليفة، كدت أشتري باقة شعر لأضعها على ضريح صوتي...لكني عدلت عن هذا الأمر فرحلت بعيدا و عدت أدراجي ...كان القطار يسير ببطء، و أسراب من الغربان تحلق حوله،...و كان عليّ أنا أن أكمل المهمة التي وكلت بها، يجب أن أصل سريعا إلى البحر لأتخلص من جثة أبي مسلم...

لا زال الرجل واقفا ورائي .

مرات كثيرة زرت نفسي...و توقفت في محطات أغفلها الزمن...و لم يزل الصوت يتبعني...بعد فترة وصل البحر إلى القطار أخيرا...فسار النّاس في اندفاع شديد نحو الباب يرتشفون من مائه...و الصوت ينادي"من شرب حتى ارتوى فهو منّي...و من اغترف غرفة فقط بيده أو أمسك فليس منّي..."

ما زال النّاس يرتشفون...أمّا أنا فأخذت أفتش عن طريقة لأتخلص بها من جثة أبي مسلم دون أن يراني أحد...و لما أكمل النّاس و غابوا عن الوعي...رميت الجثة في البحر...فوجدتني أغوص و أغوص في أعماقه...و عندما التفت رأيت الرجل قد رحل بعيدا عنّي ...إذن...لم يعد الرجل واقفا ورائي!

صفحة الفايسبوك

التسجيل في الموقع

  • صلاح
  • kadchahed

فيــــــــــــديو : تحية لقراء مجلة حنين