شاركوني بعض الذكريات
جميلٌ جدًّا أن نُداعب ذكرياتنا القديمة...البعيدة عنّا الآن، تلك الّتي تعود بنا إلى طفولتنا البريئة...هل جرّبتم من قبل أن تستذكروا بعضها وأنتم في قمّة انشغالاتكم، وأعمالكم...لذلك منفعةٌ عظيمة لا يدركها إلاّ من جرّبها...أتعلمون كيف ذلك؟؟
وقبل الغوص في الكيف شاركوني بعض ذكرياتي القديمة...تلك الّتي لم تستطع السنوات الكثيرة محوها...
كنّا شلّة من الأطفال...بنين وبنات، كنّا نحب اللّعب كثيرًا، كنّا نلعب الغميضة، ولعبة السّارق والشّرطة، ولعبة الأستاذ والتّلاميذ...على فكرة الّذين كانوا يُحبون هذه اللّعبة بالذّات أصبحوا أساتذة بالفعل كنّا كذلك نتشاجر أحيانا، وبعنفٍ شديد في بعض المرّات، سبق لنا وأن نظّفنا الحي من كثرة تمرّغنا في أرضيته ونحن نتشاجر، الغريب في الأمر أننا وبعد مثل تلك المعارك الطاحنة نتصالح بسهولة، ونُكمل اللّعب وكأنّ شيئا لم يكن، الحمد لله أنّ أهالينا لم يكونوا يتدخلون، لا عند الشّجار ولا عند المصالـحة ولولا ذلك لوقعت مجازر في الحي مرارا وتكرارا، كان كلّ واحد منّا يذهب إلى بيته ليحضر بعض القطع من المأكولات ...قليلا من الخبز وقليلا من الطماطم، وقليلا من السلطة...أي شيء كنّا نعثر عليه، ثم نجمع شمل القطع لنكوّن وجبة واحدة، كم كنّا نستمتع ونحن نأكلها بأيدينا الموسخة!...كيف لم نمرض سبحان الله؟!...رعاية الله كانت تحيط بنا يقينا.
كنّا نأخذ بعض الخبز في محافظنا لنأكله في استراحة المدرسة، لكن جوعٌ غريب لم أعرفه بعد تلك الأيام كان يُرغمنا على اقتطاع بعض اللّقيمات كلّما استدار الأستاذ إلى السبورة للكتابة، كان لنا أستاذ في الثالثة ابتدائي نحبه كثيرا رغم حزمه وشدته، كان يدرك ما كنّا نصنعه وراء ظهره، ولكنه لم يكن يعاقبنا، وكان يكتفي بملاحظة عابرة وهو يشرح، فكان يطلب منّا أن نترك الأكل لفترة الاستراحة.
كان هناك مقابل المدرسة الابتدائية محل لبيع الحلوى، وكانت الأنواع المختلفة تظهر من خلال واجهته الزّجاجية، كنّا ننظر إليها من بعيد ونحن نضغط على شفاهنا، ونبلع ريقنا مرارا وتكرارا، ولأننا لم نكن نمتلك المال الكافي لشراء ولو قطعة واحدة، فقد كان بالنسبة لنا يوم عيد حينما نتمكن من ذلك، ونجلس على الرصيف لنلتهمها بشغفٍ شديد، ظلّت تلك الأذواق الرّائعة عند الرّصيف، والسّاحة، وقاعة الدّرس وتاهت عنّا...ما عاد لما نأكله الآن تلك الرّوعة، وما عاد المال يفرحنا كتلك الأيام...فرح ذلك العمر كان له مذاقٌ خاص، ضاع عني منذ زمن.
كان بين المنزل والمدرسة البعيدة نهر طويل، كان يمتلئ في الشتاء إلى حد كان يمنعنا من المرور إلى وجهتنا، فكنّا نمر عبر الجسر البعيد لتُصبح المسافة إلى المدرسة مضاعفة مرّتين، وكنّا أطفالا صغارا تُتعبنا المسافات البعيدة، وأحيانا أخرى حينما يكون مستوى الماء في النهر منخفضا قليلا كنّا ننتعل أحذية بلاستيكية طويلة، ونمر عبر النّهر إلى المدرسة، وبعد كلّ وصول كنّا نستغرق وقتا ونحن ننظف تلك الأحذية قبل الدخول إلى القاعة.
ذكريات كثيرة تزورني الآن ربّما سأتركها لاعترافات لاحقة...أخبروني أنتم من تقرؤون كلماتي: هل مرّت بذاكرتكم الآن صور مدارسكم الأولى، وأصدقائكم، وألعابكم، وشجاراتكم؟؟...عايشوا تفاصيلها للحظة...هل تشعرون بقلوبكم تنبض قليلا؟؟...هل تشعرون بسحائب الدّموع تغطي أعينكم؟...هل تشعرون بأحاسيس قديمة تجتاحكم، وتعيدكم للحظة إلى طفولتكم؟؟
تجتاحني مع كل هذه المشـــــاعر الوديعة حســـــرة مُرّة تذكّرني أنّي أضعت شيئا ما في طريقي، وما عدت أعــــــــرف كيف أسترجعه ، لا أدري كيف أسمّيه بالضّبط؟...البراءة، الفطرة؟...كنت به أنسى الإساءات بسهوله، وأتجاوزها بسرعة، وأعود للعب دون أحقاد، أو رغبة في الانتقام، كنت أحب دون حسابات، دون مجاملات، دون تصنّع، كنت أتصرّف بعفوية مع الجميع، كنت أغضب بسرعة، وأرضى بسرعة أكبر كنت أستعذب كل ما آكله، وكل ما أشربه، كنت أفرح لكل دينار يعطى لي، كنت أسمع بشوق كبير لكل من يتحدث عن الله، وبفضول مستميت، كنت وأنا أسمع لمن يتحدث عن الجنة أتخيّلها، وأختار مُسبقًا كلّ ما سأطلبه من الله حينما أصل إليه، ولا تزال ذكريات الجنّة الّتي رسمتها في مخيّلتي إلى الآن، لم يكن الموت يخيفني...
كنت أرى كلّ الهدايا أشياء عظيمة، أفرح لها طويلا...كانت كلّ الأعياد عندي أعيادا مضاعفة...
ماذا حدث بالضبط؟؟؟
كبرنا...أضاعنا براءتنا، وامتلأت قلوبنا مع الوقت بالحسابات المعقدة، والأحقاد المتراكمة، وقلّة الرّضا والنّهم اللامحدود، بالغضب العاصف لأتفه الأسباب...فقدت الجنّة والنّار معانيها، وابتعدنا عنه كثيرا...وطال البُعد، واستقرّت الوحشة، وغاب الأنس به...حتى القرآن ما عاد يثير فينا الخشوع إلاّ قليلا.
صارحوني القول...هل تعتقدون أنّنا ننفع أن ندخل الجنّة بمثل هذه القلوب الّتي بين جوانحنا؟؟...فيما يخصّني أعتقد أنّ قلبي القديم كان ينفع أكثر...ولذلك، ومن أجل بعثه من جديد أستذكر أحيانا تفاصيل ذكريات قديمة، قد تكون لمن يسمعها بلا معنى، ولكنها جزء من قلبي وذاكرتي...تظلّ في عمقي تُصارع باستماتة كي تبقيني، تذكرني ببقايا الفطرة الّتي قد تؤهلني للجنّة...نعلم جميعا أنّه لا يفلح إلا من أتى الله بقلب سليم...تلك وسيلتي للبقاء على عهد الفطرة...جرّبوها...من يدري، قد تفيدكم أيضا؟







