في ظلّ مرثيّة أبي ذؤيب الهذلي
مهداة لزينة منصور
قالت: "نعم، لي في الجوار مراجع. سأمرّ يوم الأربعاء. أحبّ أن ألقاك". وسألت في سرّي لماذا الأربعاء؟ من أجل إيقاع القصيدة ربّما؟ من أجل ثلج لا يزال معلّقا في روح هذا العالم المدفون في الظّلماء؟ أم من أجل محو لا يزال معلّقا في مرثيات الموت يدفعه الهواء؟
يمرّ الوقت موتورا معنّى. أسمع الموتى يفرّغون ويملؤون. وأرى الدّواب تئنّ تحت السّوط بكماء لاتدري. وأسمع في نداء الباعة المتجوّلين البؤس والمرض المحاط بفضّة بيضاء هي السّتر والخوف من غيلان هذا الوقت والقبول بما تبقّى من فتات موائد الغيلان. لا أريد من الرّياح قصيدة. مثلي يسافر في الرّياح قصيدة مغموسة في العطر ينسجها الضّياء. والضّوء أسود لا يزال، والنّجم أسود، وكلّ شجيرة في غاب ذاكرتي هنا سوداء. حتّى السّماء فإنّ السّمّ مازجها حتّى تسمّم في أعماقها الماء.
يمرّ الوقت بساقه الخشبيّة العرجاء على الموتى وهم يتطلّعون. ينادمهم كعادته ويقرظهم بفائدة. أمّا هم ففرائس للكلّ، فرائس من دون لحم، ومحاجر لم تعد فيها عيون، وصدور دونما قلب يدقّ. ولا أسنان تمضغ ما كتب. لكنّهم يتطلّعون إلى غد يجري به ماء الحياة. "لن يكون هناك غد". يقول العمّ منجي. "الغد الفتيّ لا وجود له. يوجد الرّدى وتوجد الدّماء". وتقول جثّة الصدّيق نور الدّين: "لو إنّ للرّدى عينين. لو إنّ للرّدى مشاعر". ويردّ أحمد الحطّاب: "لا حطب في البحر لا حيتان. جميعنا عميان". ونسمع الصّدى في قبر خير الدّين: "لو إنّ للموتى يدين، إذن، لغيّروا الحياة. لكنّهم عظام". وتخرج الأصوات من مقابر الميناء. تمرّ بالمدينة. والوقت نفس الوقت في أصابعي يدور بسمّه. أستشعر الإعياء. يجيؤني خيال إخوتي. أريد أن أقول لا، نعم. أريد أن أبدّد الظّلم. أريد أن أطير. أريد أن أجدّد الإيقاع في قصيدتي بالرّيح والألم. أريد أن أكون حاضرا في يوم الأربعاء، كغيمة صغيرة تطلّ من مشانق السّماء. وتفهم السّماء حيرتي فهي من زمان تسير في عروقها السّموم. أحسّ في يدي عروقها تختضّ تمنح الهموم برودها وتمنح الغيوم دلاءها الملاء. "لو كان لي في فكرتي سماء، إذن، لطرت لكنّني رماد". يقول شاعر لزينة البنات. تقول له: "لو كان لي حياة، إذن، لكنت أنت العشّ أو لكان لي على الأقلّ براقي الصّغير. لكنّني أسيرة الحرير. أحبّ أن أكون زهرة بيضاء، لكنّني أمتدّ أستدير أستطيل في السّواد. ألست تلمح الفراغ في دمي، ألست تسمع الحداد".
يمرّ الوقت. أنسى أنّ مدينة سوداء باكية يموت فيها الحبّ. وأمضي باتّجاه الموعد. أرى ليلا بخيطان الرّدى ينسلّ إثري حاملا سكّينه. أنا أيضا وسكّين الغواية في دمي أمضي إليه. أنا واللّيل قتلى في حساب الدّهر، ضحايا دونما جرم، خلاء. اقتل لتقتل هاهنا بعدي. اقتل تنل قبرا مهيبا خالدا مثلي. اقتل بربّك جيّدا يا سيّدي. يتبعني ولا ينقضّ. يدرك من خطاي على الطّريق أنّ بي في العمق تاريخا من الطّعنات. يرصدني ولا ينقضّ. لست شيئا في حساب الممكنات. لست للماضي، وليس في عينيّ آت. لست بالباقي، ومثلي ليس تبقى الكلمات.
وهاهي الرّياح... وها مرابع الخيال... وها تهتزّ في العروق بوادر استيقاظ. لكنّني أغيب، ينسلّ من أصابعي الهواء، تنحلّ في عينيّ ألف غابة وغابة، تضيع منّي فجأة بيادر الكتابة. لا يبقى لي غير اصفرار دائم بعيد، تضاءلت نجومه، يدفعني بمتعة نحو المدى البعيد.