جراح مفتوحة !
لله ما أعطى، و لله ما أخذ، و رغم علمي بهذا؛ إلاّ أنّه يصعب عليّ أن أنسى كلّ الّذين رحلوا؛ أو ماتوا...صعب جدًّا أن ننظر حولنا، ونلقى الأحبة يتناقصون واحدًا واحدًا...وأظلّ من بعدهم أسترجع الذّكريات تمرّ عليّ كالعاصفة؛ تنتزع منّي عن كلّ صورةٍ دموعًا لا تريد أن تبرد حرارتها! تُبعدني عن العالم شيئًا فشيئًا!...أقلّب بقايا الصّور والثّياب...والأشياء الأخرى...أتأمّلها! كانت لهم ذات يوم!... هذه اللّعبة كانت لها؛ كانت تحبّها! وتلك المحفظة الصّغيرة...حملتها يوم العيد...أرادت أن تملأها بالنّقود لتشتري بها الحلوى ولعب أخرى! وذاك الكتاب أهداه لي يوم دخولي الجامعة...كان يطمع أن يؤثّر فيّ لألتزم! هكذا قال لي حين أعطاه لي...لم أجرؤ على إنهائه فقد كانت فيه أسئلة تُحرجني لماذا غادر الآن؟ صرنا نحتاجه أكثر من أيّ وقتٍ مضى! وهي...لم يعلمونِ بما جرى لها...كرهت الدّراسة بسببها!...حرمتني منها، و قد كنت أحبّها، كم أتمنى أن آخذها بين ذراعي وأداعبها كما كنّا نفعل دائمًا..."سارة" حبيبتي... لم أنسك رغم الوقت الذّي مضى، لم أعلم أنيّ أحبك هكذا!...أمّك لم تنسك أيضًا؛ رأيتها يوم العيد الماضي تبكي، لم أتحمّل النّظر إليها! ربّما قلّبت هي أيضًا في ملابسك الّتي احتفظت بها! و أبوك يتحاشى الحديث عنك...و عنهما! تعلمين أنّهما فقدا أيضًا "ياسين" و "وليد" عامًا من بعدك! احتسبوكم عند الله ... يطمعون أن تكونوا لهم شفعاء عنده! و أنا من سيشفع لي؟... قولي له أنّك تحبينني أيضًا؛ قد يتقبّل منك..."سارة" حبيبتي!.. مضت أعوام كثيرة منذ رحيلك...اتصلت ذات يوم بالبيت لأسأل عنهم، أخبروني أن حادثًا قد وقع...و أنّك تريدين رؤيتي! طلبوا منّي العودة لأراك! لم أصدّق كلّ شيء! لقد سمعت أثناء المكالمة ضجيجًا في بيتنا الهادئ! وكانت الكوابيس قبل ذلك تمنع النّوم عنّي! لكنّي أقنعت نفسي أنّهم لم يكذبوا عليّ!...و في المحطة وجدت سيّارة جارنا في انتظاري! بعثوه ليأخذني! أعلمني أنّهم سيدفنونك ذاك اليوم، و أنّ أمّي مصابة في المستشفى!...كان حادثًا مروّعًا! و ذاك القاتل من أين تحصّل على رخصته؟ بل من أي سوقٍ اشتراها؟ لم يُحاسب على فعلته! تدخل النّاس للصّلح لمنع الثّأر! لم يُحاسب...بقي حرًّا...أتى إلى البيت لتقديم العزاء وهو يدخن سيجارة غير عابئ بأحد...كم أتمنّى أن يُريني الله فيه يومًا يمحو به غيضي! كان من المفروض أن تكون قد دخلت المدرسة منذ أعوام كثيرة....وكان من المفروض كذلك أن تدخل الجامعة بعد أعوام قليلة...كم كانت تتوق لذلك! كانت تجمع الأقلام والطباشير، والكراريس القديمة، وتحتضنها بين ذراعيها كلّما تحرّكت، وتدرّس دميتها كلماتٍ كانت تُبدعها؛ ما كنت أفهم أغلبها؛ فإذا اكتشفت أنّي أراقبها؛ تنظر إليّ وتهديني تلك الابتسامة الّتي كم كنت أحبّها، وكانت تحبني...أين لي أن أجد مثل قلبك "سارة" ليُحبني بكلّ ذاك الصّدق والبراءة؟ كانت تجمع الحلوى، و تخبئها في خزانة ملابسها، و عندما كنت أعود في الزّيارات كانت تقدّمها لي مع كثيرٍ من القُبل، و عناقٍ طويل!...كم كانت يداها صغيرتان! و كم كانت بريئة! و كان كلامها أكبر من سنّها!... كيف يعيش قاتلها الآن؟ و كيف سأعيش أنا مع كلّ هذا الألم؟ أبواها يحاولان النّسيان...كلّنا نُحاول....لكن تماسكنا ينهار عند أيّة ذكرى، و أيّة صورة كما تنهار قصور الورق! فيلملم كلّ واحدٍ منّا شتاته وينسحب إلى غرفته، كم تؤلمني الذّكرى!... و غدًا، وكلّ عامٍ في مثل الغد ستحلّ علينا ذكرى رحيلها.
في أمسٍ بعيد كانت جدّتي، ثمّ أبي، فحبيبتي "سارة" ، ثم "أمين" قائد الشّلة، فشفعاء الأحبة "ياسين" و"وليد" ، "رشيد" المغدور به، فمُنقذتي "إيمان" ، ومنذ أسابيع رحل "كمال" دون سابق إنذار! لم يعلم أحد برحيله!...أخذ بعض الملابس، و ما عنده من المال، و جواز سفره...وغادر! ترك رسالة وصلتنا عبر البريد:
(أيّه الأحبة...سلام عليكم وبعد...حين ستصلكم رسالتي بإذن الله سأكون قد ابتعـــدت لا تبحثوا عنّي، ذهبت إلى حيث يجب أن أكون، لم أعد أحتمل هذا الهوان، بالأمس كانت "أفغانستان" ، واليوم "العراق"، وغدًا أو في يومٍ ما سيصل دورنا، لن أنتظر هنا كالحمَل الوديع سكّين الجلاد، أفضّل أن أموت واقفًا، شامخًا مثل الحق، لا أستطيع أن أرضى بهذا الذّل و إن ارتضى به الخونة من حكامنا، أرفض أن أكون مع القطيع التّائه على وجهه في هذا الوجود، سأذهب إلى ربّي، لن أدافع عن نظام أو سلطة فقد طغوا؛ و آن لهم أن يسقطوا...وبأيدي من هم أطغى منهم، و لكلّ طاغية دوره، و هذه سنّة الله في خلقه.
بدأت أشتاق إليكم قبل الرّحيل، لكن البقاء معكم أيضًا مستحيل، أحبّكم جميعًا وأشتاق إليكم، وأحمل معي ذكراكم كأغلى متاع...موعدنا في الفردوس الأعلى)
أحد العائدين من هناك جاء إلينا متستّرًا؛ حدّثنا بصوتٍ منخفض، قال لنا: (رحل إلى ربّه، أذكروه بالدّعاء، أستشهد قبل سقوط "بغداد"، صانه الله من رؤية الغزاة على أرضها... كانت خيانة قذرة، نجوت منها ووقع هو لا...بل نجى إلى ربّه ولا أزال، دفنّاه في فناء إحدى المساجد، و هذا جواز سفره و بطاقة تعريفه ومذكراته...أدخلتها معي بصعوبة، كان يحبّكم وكان يحدّثني عنكم كثيرًا، المهم؛ ها قد أديت الأمانة، اللّهم فاشهد! الأحسن أن لا يرى أيًّا كان هذه الوثائق، لا تثقوا في أحد، فقد وقعت "بغداد" عندما خانها من كان يجب أن يُدافع عنها).
كيف سنعيش مع هذا الألم؟ و هذه القلوب قد ثملت الحزن والأسى، كم من الأحبة سأودّع قبل أن يحين دوري؟...كان أخي...وكان أخوها...كم كانت الطفولة سعيدة!...أكل وشرب ولعب، لا مشاكل ولا أحزان ولا حسابات معقدة...كان زمنًا ومضى! كتب "كمال" مذكرات كثيرة، نبرتها كانت حزينة، وكان الأمل في النّصر يتضاءل بمرور الأيام... والصّفحات! و ظلّ الأمل في الشّهادة وحده يقاوم في عنفوان!...كيف ترك كلّ شيءٍ ورحل؟؟...هيه!...يا سذاجة تفكيري!...وماذا ترك؟...أطلال خربة تنعق فوفقها غربان النّحس! لقد أحسن الاختيار!...آخر صفحة من مذكراته دوّن عليها كلمات نشيده المفضّل...كان رغم فترات صمته الطويلة بيننا يردّده! و كثيرًا ما أمسكنا به متلبّسا يلوكه بين شفتيه... كان له صوت جميل:
ماض و أعرف ما دربي و ما هدفي
و الموت يرقص لي في كل منعطف
و حياتنا أنشودة صيغت على لحن الكفاح
و طريقنا محفوفة بالشّوك من كبد الرماح
يا دربنا يا معبر الأبطال يا درب الفلاح
إنّا إذا وضع السّلاح
في دربنا ضجّ السّلاح
في وجهنا ضجّ السّلاح
و إذا تلعثمت الشّفاه تكلّمت منّا الجراح
مضى الّذين شغاف القلوب يعشقهم...من الأحبة من حولي فولهفي
و صرت حقل هشيم...غربةً و أسىً تجتاحني شرر التّحنان والأسف
و احر شوقي إليهم كلّما هتفت نفسي، و نفسي بهم...مجنونة الكنف
إنّي أتوق إلى الجنّات والغُرف.







