قصة عرفانية في البرج
قرأت مقالا لأحد الأساتذة المصريين يقول فيه : "الأماكن بشر، نحب بعضهم ونبغض بعضهم" .
ينطلق الأستاذ في حكمه من نوع العلاقة الرابطة بين الذات الساكنة في المكان وعناصر المكان، من بشر وشجر وحجر. فإذا ارتبطت العلاقة بذكريات جميلة ومسيرة حافلة بالأنس والسكينة داخل المكان، أحببناه. وإذا حدث العكس، فإنّ المكان يتحول إلى مثير للذكريات التعيسة، كلّما حضرنا إليه أو استحضرناه. ينبني تصور الأستاذ على علاقة أفقية، طرفاها إنسان ومكان، وهي رؤية عقلية تستند إلى ظاهر الأشياء، وتتبنى منطقا ديكارتيا يجعل الذات المحبة أو الكارهة للمكان واعية بسلوكها، صاحبة المركز في الكون، تقرّر كلّ أفعالها، وكأنّها ذات-إله على الأرض.
تؤدي الرّؤية السابقة إلى فصل الذات عن موضوعها( المكان)، وكذا فصل الموجودات( الإنسان والطبيعة) عن خالقها( اللّه). في حين أنّ الأماكن موجودات اللّه، فبفضله خرجت من العدم إلى الوجود. ولم تخلق عبثا، فهي تحمل أسرارا إلهية وحكما ربانية، لا يعرفها إلا من تنورت بصيرته. وانطلاقا من هذا التصوّر، فإنّ علاقة الذات الإنسانية بأشياء العالم غير محكومة بسيطرة واعية على الأفعال الموجهة نحو الموجودات، وإن بدت ظاهريا أنّها كذلك. فالعلاقة بين الموجودات واللّه علاقة حب، استنادا إلى الحديث القدسيّ:" كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني". وتنسحب هذه العلاقة على كلّ الموجودات، ويشترط الاتّصال بالحقّ لمعرفة حقيقة الذات وكذا الموجودات، ويتمكن الباحث عن الحقيقة من تلقيها دون كسب أو إمعان فكر، بل يستسلم لما ينكشف أمامه من رؤى إلهية، يقذفها الحقّ في قلبه.
يعتبر المتصوفة الكون بما فيه من موجودات تجلّيا للحكم الإلهية، من مراتبه الاسمية، تستند المعرفة في هذه المراتب إلى ما يعتري العارف من أحوال عند ترقيه في ذكر الأسماء الإلهية، فتكون المعرفة من خلال مرتبة الأسماء خطابا من الحقّ إلى العارف.
من هنا نستطيع اعتبار الأماكن تجلّيات لأسماء اللّه الحسنى، أسماء الجلال أو الجمال. فما على السّائح إلا الاستسلام لما ينفسح أمامه من رؤى، قد ينكرها من احتجب بوهم العلاقة الأفقية المزيفة.
بعد هذه المقدمة الإضائية، أبوح بما انكشف لي في ولاية برج بوعرريج، أين شاركت بمداخلة عن الأديب الصوفيّ محمد عبد الجبار النّفريّ. تقع البرج في منطقة الهضاب العليا بالشرق الجزائريّ. تربتها صفراء، قاسية الملمس، أراضيها مسطحة، لا تكثر فيها المرتفعات، تسمح للبصر بالامتداد في الأفق دون عارض طبيعيّ، من شجر أو هضاب أو أكم، أشجارها صغيرة، منتشرة باستحياء بين الأراضي الزراعية، تكاد الطبيعة لا ترى من قلّة أنسامها. اعتبرها الجميع طبيعة منفرّة، غير منشرحة، تبعث على الكآبة والتشاؤم.
إنّ الرّائي بالعين المجردة غير الرّائي بالقلب. فلقد انكشفت لي البرج قصة حب جميلة، وتجلّيا لاسم اللّه المتكبرّ، إنّ طبيعة البرج بانبطاح أراضيها وقصر أشجارها وقلّة أكماتها تجلّي التواضع الطبيعيّ أمام اسمه المتكبر، وينفث الحبّ نسغه في هذه العلاقة، فتذوب الطبيعة في خالقها حبا لتجلّيه وظهوره، وتعدم الكبر فتنفي كلّ ما ارتفع. كادت تمّحي البرج في رداء التواضع، حتى لا تكاد تراها. أما صفرة البرج لحظة عرفانية، لحظة تجلي اسم اللّه، المتكبر. فشحوب وجه التربة علامة ذهول من جلاله وكبره، وهي علامة طول انتظار للمتكبر، هل حان أوان تجلّيه؟،
استوقفني فناء طبيعة البرج في خالقها. فهذه المنطقة الهادئة تكابد عشقها في صمت، تزداد انبطاحا يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة. فالبرج التي زرتها 2011 أكثر بذلا وتواضعا لخالقها. اختارت البرج معرفة خالقها من اسمه المتكبّر، الذي لا يقبل أن يزاحمه فيه إنسيّ ولا جان، فهل ستثبت على فنائها عن الكبر؟ أم أنّ الشيطان يوقعها في زلة آدم؟ هل تحتمل أنوار التجلّي وتلبس دائما صفرة الذّهول في حضرة المتكبر؟ .
سأرى ذلك العام المقبل، وإلى حين ذلك أما زلتم تنفرون من محبة فنّيت في محبوبها؟ دخلت البرج بنص صوفيّ مكتوب، ألقيه في محاضرة، أعلّم الطلبة استراتيجية الخطاب الصوفيّ، وإذ بالبرج تستقبلنيّ بنص صوفيّ، من واقعة تجربتها العرفانية. فعلمتني أكثر مما علّمتها