ولدى المبدعين أوجه قصور ولله في خلقه شؤون !
يتراءى أمام مخيلتي دائماً عدد من الشخصيات التي نجد لديها شيئاً كبيراً من القوَّة والفهم والعلم والحنكة، لكنَّهم في جوانب أخرى لا يكادون يفقهون شيئاً، فضلاً عن مكامن خلل في نفوسهم وطاقاتهم...
ما أَضعَفَ الإِنسانَ لولا هِمَّة في نُبلِهِ أَو قوَّة في لُبِّهِ
وكنت كثيراً ما أتفكَّر في أحوال هؤلاء وأجد عظيم قدرة الله تعالى في هذا التفاوت الخلاَّق في شخصية الرجل نفسه، ذلك عالم جهبذ ولكنَّه لا يستطيع الخروج والتحدث على جمهرة من الناس، بل نجده يتلكَّأ ويتردد مرة، ويقدِّم رجلاً ويؤِّخر عشرا. وذلك شخص كريم معطاء جواد، بيد أنَّه جبان رعديد خوَّار، ولا يستطيع الجمع بين الأمرين! وآخر محترف في فهم اللغات فيجيد عدداً منها ، لكنَّه يخفق في تعلِّم أسهل لغة وهي :(اللغة العبرية) بل يتصدَّع ذهنه وهو يحاول أن يتعلَّمها ! وآخر يحفظ كلَّ ما هبَّ ودب من الكلمات والمعاني والمقالات وأشرطة المحاضرت كذلك، ولكنَّه في واد والعلم في واد آخر، فهو يتابع أخبار الرياضة وكمال الأجسام، فهو فيها حذقٌ لبقٌ خرِّيت! ونجد الله تعالى يخلق الرجل الغني ولديه أخ فقير للغاية، أو شخص حافظ للقرآن وحافظ للسنن والصحاح ولكن ليس لديه همٌ في نشر العلم والدعوة إلى الله! ورجل آخر لديه من العلم كبير تدقيق وإنعام نظر، وفهم ودقَّة بصيرة وبصر، لكنَّه لا يكاد يحفظ شيئاً منه، فحفظ العلم شيء عسير عليه للغاية، مع أنَّ لديه قوَّة هائلة في الفهم وتحليل المعلومة، ولعلَّ خير شاهد على ذلك ما حصل للإمام جلال الدين المحلي وهو من أئمة الشافعية، وله وللإمام السيوطي نُسِبَ تفسير:(الجلالين) ولكنَّه ضعيف الحفظ للغاية، فقيل عنه إنَّه حاول أن يحفظ فصلاً من كتاب ولكنَّه أخذ عليه وقتاً طويلاً جداً لأكثر من أسبوع وهو لم يحفظ الصفحة الأولى منه، ولشدَّة الحفظ عليه ارتفعت درجة حرارته ، وظهرت في جسده بثور، وشكا من صداع شديد في رأسه، وأعلن إفلاسه من حفظ ذلك الفصل!! والإمام السيوطي رحمه الله كان مبرِّزاً في فنون كثيرة من العلم الشرعي، بيد أنَّه في علم الحساب لم يكن له ذا خبرة أو علم. ويُحكى أنَّ الأصمعي العالم اللغوي الكبير أراد أن يتعلَّم العروض والقافية فلم يستطعه وحاول وجدَّ واجتهد وأغلِقَ هذا العلم عليه، حتَّى كتب له شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي بيتاً عناه به لكي يقطعه:
إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع يقول الخليل الفراهيدي: "فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إليّ، وكأنه فهم ما أشرت إليه!"[1]
وإلى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال الإمام الذهبي عنه :"... وبرع في الحديث والفقه وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة وتقدم في علم التفسير والأصول وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها ودقها وجلها سوى علم القراءات!"[2]
وهذا يبيِّن لنا أنَّ ابن تيمية لم يكن لديه العلم الواسع في القراءات كما كان في غيره! ومن جهة أخرى نجد هنالك أشخاصاً أوتوا من العلم قدراً واسعاً لكن كانت لديهم عقدة نفسيَّة انزاحت عنهم بعد مدَّة ليست بالقليلة، ومنهم العلاَّمة محمد الخضري بك ـ رحمه الله ـ صاحب الكتب الكثيرة في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وسير الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعبَّاسية، يحدِّث عنه الشيخ الأديب علي الطنطاوي، فيقول: " إنَّ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود،ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءً، ويئنُّ ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبداً"[3].
وقصَّة مكتشف قانون الطفو ماثلة أمام أعيننا ولا تغادر بالنا، فلقد "طلب ملك سيراكوس من (أرخميدس) أو (أرشميدس) بعد أن شكَّ في أن الصائغ الذي صنع له التاج قد غشه، حيث أدخل في التاج نحاس بدلاً من الذهب الخالص، وطلب من أرشميدس أن يبحث له في هذا الموضوع بدون إتلاف التاج، وعندما كان يغتسل في حمام عام، ( وكان نادراً ما يغتسل ) لاحظ أن منسوب الماء ارتفع عندما انغمس في الماء، وقد قيل إنه خرج بثياب الحمام في الشارع يجري ويصيح (أوريكا، أوريكا) أي وجدتها وجدتها، لأنه تحقق من أن هذا الاكتشاف سيحل معضلة التاج،
وقد تحقق أرشميدس من أن جسده أصبح أخف وزناً عندما نزل في الماء، وأن الانخفاض في وزنه يساوي وزن الماء المزاح الذي أزاحه، وتحقق أيضا من أن حجم الماء المزاح يساوي حجم الجسم المغمور. وعندئذ تيقن من إمكانية أن يعرف مكونات التاج دون أن يتلفه؛ وذلك بغمره في الماء، فحجم الماء المزاح بغمر التاج فيه لا بد أن يساوي نفس حجم الماء المزاح بغمر وزن ذهب خالص مساو ٍ لوزن التاج. وكانت النتيجة : أن الصائغ فقد رأسه بهذه النظرية.
والشاهد هنا: أنَّ أرخميدس وأثناء اكتشافه لقانون الطفو، خرج من الحمَّام عرياناً وقد ذهل عن نفسه بأنَّه مستشار الملك، وأنَّ الناس تنظر إليه نظرة الاحترام والتقدير لإبداعاته، ولكنَّه مع هذا غفل عن ذلك كلِّه وخرج عرياناً من الحمَّام، والناس تنظر إليه"[4]!
ولا يغادر بالنا ما ذكره المترجمون لسيرة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه " كان لجاره ديك قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عَمَدَ إلى شغله صاح الديك، فأزعَجه عن عمله، وقطع عليه فكره.
فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه، ويذبحه، ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقاً له، وقعداينتظران الغداء، وأخذ يحدِّثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجده بعده من لذة وراحة، ففكَّر في أمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه. ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح" [5]!
ومن منا لا يعرف الشيخ علي الطنطاوي في بلاغته وفصاحته وطيب حديثه وكلامه؟! في متعة الأقوال بثُّ شجونه * فحديثه وكلامه إمتاع ومع هذا وذاك فقد ذكر الطنطاوي عن نفسه في ذكرياته أنَّه كان يصاب بالارتباك والتعرق الشديد قبل أن يدخل على الناس في المجلس، وقبل أن يبدأ بخطبته أو موعظته وأنَّ هذا الشيء قد لازمه مدَّة ليست بالقصيرة! وآخرون آتاهم الله من فنون القتال والخبرة العسكريَّة والشجاعة والصلابة والقوَّة، والتي ما إن يتذكرهم شخص حتَّى يستشعر قوَّتهم ومتانتهم، ولعلَّ ما يشهد لذلك ما حدث في عام 76هـ حينما قاتل الحجَّاج بن يوسف الثقفي الخوارج وكان منهم غزالة الحروريَّة زوجة شبيب الشيباني الخارجي، حيث بعث له الحجَّاج خمسة قوَّاد فقتلهم شبيب الخارجي واحداً بعد الآخر ثمَّ سار إلى الكوفة وحاصر الحجَّاج، وكانت معه زوجته غزالة وكانت شديدة القوة عديمة النظير في الشجاعة، بل ذكر بعض المؤرخين أنَّ غزالة حينما برزت للحجَّاج لمقاتلته لم يستطع مقاتلتها لما رأى من شدَّة بأسها فجبن وخاف، فعيَّره أحد الشعراء وقال:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلاَّ برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر
ونلاحظ في حياتنا اليومية كذلك شخصيات آتاها الله من العلم والدهاء والذكاء ما يغبطه عليه فيها كثرة كاثرة من الناس، لكنَّنا نجد بعضهم لا يزال متعوِّداً على حركات وممارسات غريبة عجيبة، فهذا لا يستطيع أن يقرأ إلاَّ وقد وضع يده في فمه، أو يحك شعره ، أو ينتف لحيته ، وأورد في ذلك قصَّة طريفة فقد حُكي عن القاسم بن علي الحريري ـ صاحب المقامات ـ أنه كان شغوفاً بنتف لحيته؛ فوكِّل به شخص يمنعه من ذلك. فلما عرض المقامات على الوزير وأعجب الوزير بصنعته سأل عن حاجته فقال الحريري:(أرجوك يا سيدي ملِّكني لحيتي)!! فأجاب سيده وقال له: قد فعلت !.[6]
يريد ـ الحريري ـ أن يسمح له الوزير بنتف لحيته كما كان متعوِّداً على ذلك، لشدَّة شغفه بها، مع أنَّه كان أولى به وأجدر أن يطلب منه مثلا قصراً منيفاً أو مالاً وفيراً لكنَّه قد تعلَّق بهذا العمل فكان ما كان من ردِّه الغريب!
ونجد أناساً يصفون الدواء للآخرين ثمَّ يقعون في الداء، فهذا دايل كارنيجي صاحب كتاب :( دع القلق وابدأ الحياة) ويتداوله ـ مفيداً منه ـ كثير من المفكرين والإداريين ، ولكنَّا نجده يموت منتحراً !! وشخصيات كانوا مثار غباء مدقع لدى معلِّميهم حتَّى طُرِدُوا من المدرسة بسبب فشلهم دراسياً، لكنَّهم أبدعوا في مجالات أخرى وممَّا يشهد لذلك سيرة المكتشف :(أديسون) حيث طردته المدرسة من التعليم بسبب غباوته وبلادته، وحينما كان يحاول التفكير في صناعة الكهرباء كانت والدته تضحك منه وتعدُّه رجلاً فارغاً، ولكن مضت الأيام والسنون؛ فإذا به يُخرِجُ للعالم المصباح الكهربائي ، بل ورد أنَّ اختراعاته فاقت أكثر من ألف اختراع !
ومن الغرائب كذلك ـ والغرائبُ جمَّة ! ـ غباء بعض المبدعين في مواقف لا تحتاج إلاَّ للغباء وليس للذكاء، ويروى في ذلك قصَّة رمزيَّة، حيث يحكى أنَّ ثلاثة أشخاص حُكِمَ عليهم بالإعدام بالمقصلة ، وهم عالم دين- ومحامي- وفيزيائي، وعند لحظة الإعدام تقدّم ( عالم الدين ) ووضعوا رأسه تحت المقصلة ، وسألوه : هل هناك كلمة أخيرة توّد قولها؟
فقال ( عالم الدين ) : لن ينقذني سوى الله تعالى من هذا الموقف العصيب! وعند ذلك أنزلوا المقصلة ، وعندما وصلت لرأس عالم الدين توقفت .
فتعجّب النّاس ، وقالوا : أطلقوا سراح عالم الدين فقد قال الله كلمته . ونجا عالم الدين!
وجاء دور المحامي إلى المقصلة ..
فسألوه : هل هناك كلمة أخيرة تودّ قولها ؟
فقال : ليس لدي علم بالله كاف كما لدى عالم الدين، ولكني أعرف أكثر أنَّ العدالة هي التي ستنقذني.
ونزلت المقصلة على رأس المحامي ، وعندما وصلت لرأسه توقفت .
فتعجّب النّاس ، وقالوا : أطلقوا سراح المحامي ، فقد قالت العدالة كلمتها ، ونجا المحامي!
وأخيرا جاء دور الفيزيائي ..
فسألوه : هل هناك كلمة أخيرة تودّ قولها ؟
فقال : أنا لا أعرف الله كعالم الدين ، ولا أعرف العدالة كالمحامي ، ولكنّي أعرف أنّ هناك عقدة في حبل المقصلة تمنع المقصلة من النزول ...
فنظروا للمقصلة ووجدوا عقدة تمنع المقصلة من النزول ، فأصلحوا العقدة وانزلوا المقصلة على رأس الفيزيائي وقطعت رأسه!
فصار هذا العالم الفيزيائي في خبر كان بعد أن فتح فاه بشيء كان من الأولى ألاَّ يقوله، بل كان الأولى في حق نفسه أن يقفل فمه عن الكلام على الأقل حتَّى وإن كان يعرف الحقيقة، فمن الذكاء أن يكون الشخص غبيّاً في بعض المواقف!!
· قراءة في دلائل الحكمة الربانيَّة في الطباع البشرية:
بعد هذا كله .... يسرح بي التفكير كثيراً في خصائص هؤلاء، وكثيراً ما أقنع نفسي أنَّ الله تعالى له في خلقه شؤون، وأنَّ في هذا العالم بدائع العجائب، وصنائع الغرائب، التي تدل على عظيم حكمة الله تعالى في خليقته، ويمكن أن نخرج من جميع ما ذكرته من مواقف وقصص بعدَّة فوائد وعبر ومنها:
1 ـ كلًُّ ما ذكرته وما أعرضت عن ذكره كثير كذلك، لا يدل إلاَّ على بديع صنع الله في الخلق، فلا كامل في هذا الوجود إلاَّ الله، ولا مهيمن ولا مسيطر ولا قوي ولا عزيز تكتمل له هذه الأسماء والصفات إلاَّ الله تعالى.
2 ـ يقول الله تعالى :(لكل وجهة هو موليها) ويقول عزَّ من قائل:(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) ، وحينما فسَّر المفسِّرون هذه الآية وقفوا معها وقفات عديدة فقال ابن عباس عن قوله (شاكلته): ناحيته ، وقاله الضحاك ، وقال مجاهد : طبيعته ، وعنه : حدته ، وقال ابن زيد : على دينه ، وقال الحسن و قتادة : نيته ، وقال مقاتل : جبلته ، وقال الفراء : على طريقته ومذهبه الذي جُبِلَ عليه ، وصدق من قال:
كل امرئ يشبهه فعله ** ما يفعل المرء فهو أهله
وهذا يدل في واقع الأمر على طبائع البشر التي خلقها الله تعالى وكوَّنها فيهم، وجبلهم أو فطرهم عليها، فكل النفوس تميل إلى ما يناسبها وما يشاكلها من طبائع وارتياحات وخصائص تختلف بها عن الأخرى، ولله في خلقه شؤون! وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعمله الناس أهو أمر قد قُضِيَ وفرغ منه أم أمر مستأنف ، فقال بل أمر قد قضي وفرغ منه ، فقالوا : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له " أخرجه البخاري ومسلم.
ومن جميل ما يذكر في هذا المقام أن عبد الله بن عبد العزيز العمري العابد، كتب إلى الإمام مالك يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: " إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له، والسلام"[7].
3 ـ بقدر ما يبلغ المرء من طاقات عقليَّة وفكرية وعلميَّة؛ فإنَّ جانب القصور سيبقى كامناً فيه، ولقد خلق الله الإنسان في كبد كما قال عزَّ وجل:(لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وهذا التعب والنصب والعناء الذي يواجهه قد يؤثر على طبيعته العقلية أو الحياتيَّة فيزرع في قاع نفسيته بعضاً من أوجه القصور والنقص التي تظهر عليه في طبيعته النفسية.
4 ـ ولعلَّ من الحِكَمِ في ذلك أن يري الله تعالى أوجه النقص في البشر، فلو بقي الشخص على ما هو عليه من عزيمة وصلابة وقوَّة، لكان خديعة للناس، ولغلت الناس فيه، وأعطته ما لا ينبغي له، ولهذا نجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على عظيم منزلته عند ربِّه وفي قلوب المسلمين، يصاب بالنسيان صلَّى الله عليه وسلم فيقول:(إني بشر أنسى كما تنسون)، ويصاب صلَّى الله عليه وسلم بالسحر فيسحره اليهود مدَّة لا بأس بها.
5 ـ ليست أوجه القصور والنقص التي يقع فيها كثير من المبدعين؛ إلا لحكمة قد تكون ظاهرة أو خفيَّة قد جبل الله صاحبها عليها، لكي يعلم أنَّ الله الكامل في علاه ، ويبقى الإنسان ناقصاً قاصراً عن إدراك جميع نواحي الكمال، فيبقى مفتقراً إلى الله تعالى بالدعاء والرجاء ، ولا يغتر بنفسه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:" يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). إذا لم يكن عون من الله للفتى * فأول ما يجني عليه اجتهاده
6 ـ ومن أوجه حِكَمِ الله تعالى في ذلك أنَّ المبدع أو العالم أو الشخص الكبير في أعين الكثير من الناس يعلم عن نفسه ذلك القصور، فلا يعطيها أكبر من حجمها ، ولا يتكبَّر على عباد الله، بل يضع من قدر نفسه أمام نفسه، ويتواضع للخلق أمامهم، ويعلم أنَّ المعطي والنافع ، والخافض والرافع هو الله تعالى، فيلجأ إليه ، ويصبر على ما ابتلاه به من أوجه قصور قد يعرفها هو ولا يعرفها عنه كثير من الناس ويعلم أنَّ ذلك من باب الابتلاء فيصبر و يحتسب ، ويوقن أنَّ ما أنعم الله به عليه من أوجه الإبداع والعلم والمكانة والمنزلة كذلك من أوجه الابتلاء، فليس له إلاَّ أن يتمثَّل قوله تعالى:(ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنَّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنَّ ربي غني كريم ) سورة النمل:(40).
7 ـ أن نلتمس العذر للناس حينما نرى إبداعاتهم وفي المقابل نرقب ما لديهم من أوجه نقص وضعف فلا نستغرب ذلك، وحتَّى من جمع الله له بين العلم والمكانة وبين شيء من أوجه القصور والضعف؛ فعليه أن يتعامل مع غيره بمثل هذا، فيعذرهم ويعلم أنَّ ذلك كائن لحكمة ربانية ، فلا تكون نظرتنا للآخرين نظرة انتقاص، بل واجبنا النصح والإرشاد ، ونكون كما قال الشاعر الإسلامي محمد إقبال:
شـرار الفأس دع من قال عنه *** أمن فأس؟ أمن حجـر يكون؟
وأود في هذا المقام أن أنبِّه إلى أنَّ بعض دعاة النقد الذاتي يتقنون ويبدعون في كتاباتهم التأصيليَّة، والتي يقرِّرون فيها شيئاً ما من قضايا العقيدة و الشريعة، أو الواقع الحياتي، لكنَّهم يضيقون ذرعاً حينما ينتقدهم أحد، ولو كان نقده هادئاً ومهذباً ، وليس هذا إلاَّ أنَّهم يرتهنون الحق ويحصرونه بل يحكرونه على أنفسهم، ولا يعطون كذلك الحق لغيرهم في حرية النقد البنَّاء والهادف، مع ضرورة التذكير؛ بأن يكون النقد أو التصويب والتصحيح من كلا الطرفين بما يوافق منهج الكتاب والسنَّة وفق القواعد المرعيَّة التي يذكرها العلماء في التعامل مع نصوص الوحيين.
8 ـ توزيع القدرات بين البشر إنَّما هو لتحقيق التكامل البنائي، وترسيخ لأصل (البنيان المرصوص)، وإثباتٌ لـ " وجعلنا بعضكم لبعض سخريا" والله تعالى كذلك يقول : ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) [ الزخرف : 32 ].
قال أبو حيان:وقوله تعالى (سخريا ) بضم السين من التسخير بمعنى الاستخدام، لا من السخرية بمعنى الهزء، والحكمة هي أن يرتفق بعضهم ببعض ، ويصلوا إلى منافعهم،ولو تولى كلواحد جميع أشغاله بنفسه ما أطاق ذلك.[8]
وكل الخلق مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ،والتفاوت في الأعمال والأرزاق.[9]
فالتسخير سنَّة إلهيَّة في البشر، فالكل يستفيد من الكل، ويرتوي من معين الآخرين، ولمَّا سمع الإمام أحمد رجلاً قال: اللهم لا تحوجني إلى خلقك ! قال الإمام أحمد: هذا رجل تمنَّى الموت![10]
9 ـ أن يعرف كل إنسان مقدار نفسه ، ويجتهد فيما يجيده ، ولا ييأس إذا لم ينجح في جانب ما ، لأنه ربما كان لديه جانب آخر يجيده ويمكن أن ينجح فيه ، ولهذا ينبغي على الآباء ألا يحصروا نظرتهم في مستقبل أبنائهم في قوالب حددوها لهم منذ طفولتهم ، فإما أن ينجح دراسياً أو هو إنسان فاشل ، وإما أن يجيد العمل التجاري أو هو لا يصلح لشيء، ولكن ينبغي عليهم البحث في دواخل أبنائهم لاستكشاف مواهبهم و تنمية هذه المواهب ، وكل بحسب طاقته ، وكذلك تشجيع الجانب القوي لديهم بدل التركيز على توهين عزائمهم بناءً على فشلهم في جانب ما .
10 ـ ضرورة التفريق بين العالِمِ المسلم وغيره من العلماء والمبدعين غير المسلمين، فالعلماء المسلمون الربَّانيون لديهم من العلم بالله ما يوصلهم به، ويجعلهم يتعلقون بحبال طاعته ولو كان لديهم من القصور أو أوجه النقص ما كان، لكنَّ العلماء الكفَّار وغير المؤمنين بالله فهم كما وصفهم ربهم تبارك وتعالى:( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) سورة الروم:(7).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:(أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة، قال الحسن البصري:" والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي)[11] .
ونقل القرطبي في تفسيره نقلاً عن أبي العباس المبرد قوله : قسم كسرى أيامه فقال : يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج . قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم"[12]
11ـ ما يقوله كثير من الناس :(أنت تريد وأنا أريد والله يحكم ويفعل ما يريد) كلمة صحيحة المعنى، واضحة الدلالة، فلربما يتمنَّى المرء أن يعيش غنياً وهو يتجرَّع معاناة الجوع والعطش، وقد يكون سبب ذلك ضعف تطلب ذلك الرجل للرزق، ولكن قد يكون من أسباب ذلك سعة رحمة الله في ذلك العبد لحكمة يعلمها وهو أنَّه لو جعل ذلك الشخص غنياً لبطر وتكبر على خلق الله ، فمن محبة الله له أنَّه يجعله يعيش حياة الفقر والمسكنة لكيلا يبوء بالحرمان من رحمة الله تعالى، وكذلك من ذكرت مثاله آنفاً بمن آتاه الله شيئاً كبيراً من العلم والفهم، لكنَّه لا يستطيع الحديث أمام الناس، وقد يكون لذلك أسباب حسيَّة، ولكن كل شيء بقضاء وقدر وحكمة قد تكون خافية ولعلَّ من الحكم المستنبطة في ذلك: أنه وكما هو معلوم بأنَّ الله تعالى يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلعلَّه تعالى يعلم أنَّ ذلك الشخص لو كان يخطب ويتحدث بطلاقة لأعجب بنفسه وانتفش كبراً وإعجاباً ويظن أنَّ ذلك بسبب قوته وما لديه من إمكانيات وقدرات مواهب وطاقات، لكنَّ رحمة الله بذلك العبد جعلته ينظر لنفسه بمنظر لعله يحاول أن يدرك فيه المغازي والحكم الربَّانية في ذلك.
تلك تأملات كانت كامنة في النفس، فأحببت التصريح بها لمن شاء من القراء، ذكرت فيها شيئاً من حكمة الله تبارك وتعالى والتي نسأله تعالى أن يجعلنا قد وُفِّقنا في عرضها ، وألين لنا البناء الدلالي لسبكها ، فله عزَّ وجل نخضع ونخشع وإليه نرغب ونرهب، ونعترف أمامه بضعفنا وانكسارنا ، ونسأله أن يزيد من علمنا وفقهنا ويبارك لنا في مسيرتنا الحياتية، لكي نصل إليه وهو راضٍ عنَّا، هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملاحظة : المقال منشور في موقع رسالة الإسلام.
المراجع :
[1] ) البداية والنهاية لابن كثير :(10/172) ،دون إشارته إلى أنَّه الأصمعي وقد أشارت بعض المصادر الأدبيَّة لذلك.
[2] ) العقود الدرية ص19
[3] ) صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص17 ـ 26.
[4] ) المصدر موقع ويكيبديا:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B1%D8%AE%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%B3
[5] ) صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص17 ـ 26.
[6] ) نزهة الألباء في طبقات الأدباء ص329
[7] ) التمهيد لابن عبد البر.
[8] ) تفسير البحر المحيط:(8 /13)
[9] ) تفسير الظلال 7 / 330.
[10] ) مغنى المحتاج (4/213)، وكشف الخفاء للعجلوني ص561.
[11] ) تفسير ابن كثير لقوله تعالى: ( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) سورة الروم، آية (7)
[12] ) تفسير القرطبي لقوله تعالى: ( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) سورة الروم، آية (7)