من ذلك المجرم الّذي تسلّل ليلا إلى سريرها ؟

بالرغم  من  أن  وفاء  في أيّام العطلة  الشّتوية إلاّ  أنّها  استيقظت  مبكرا  كغير  عادتها ... وبدأت  تجول  في  خاطرها  تساؤلات  بريئة  جريئة  لا  تجد  لها  أيّ  جواب ... مادام  أنّ  الناّفذة  والباب  مغلقين  بإحكام  من  يكون ذاك  المجرم  الذي تهجّم عليّ ليلة  البارحة ؟
لماذا  ألقى عليّ بثقله  الثّقيل ؟
ما هي  المادة  التي  استعملها وحقنني  بها  فجمّد  الدّم  في عروقي وأحدث  شللا  في  جسدي فمنعه  من  الحركة، وجمّد  لساني  فلم أستطع طلب النجدة؟

 

كيف  سأنتقم  من  ذلك  المجرم؟

بقيت  وفاء  حزينة حائرة  لا  تجد  لتساؤلاتها  أي جواب ، حتى  أنّها  لم  تتجرأ  على إخبار  أي  فرد من أفراد  عائلتها، خاصة أبويها  خوفا  من  ألا يصدّقوها ...

وقد  عانت من  أذى  هذا  المجرم كثيرا، وصارت  تكره  علامات  قدوم  اللّيل ولا  تستطيع  النّوم إن  لم  تمسك بيد  أحد  أخواتها، وتترك  المصباح  مشتعلا  رغم  احتجاجهن ، وكانت  حين  تخلد إلى النوم  تقاوم النّعاس بكلّ قواها  كأنّها  في  جهاد  كي  لا  تنام .

 

وكانت  تقضي معظم  اللّيل صاحية تلوم  الله  عز  وجل ... لما  خلقت  الشّياطين ؟
ما دمنا لا  نراهم، لما سمحت  لهم  بالعيش  في  عالمنا  هذا ؟
يا ألله ...  أخلقت  اللّيل  لكي  أعاني ؟ أولم  تخلقه للنّوم ... للتّخلص من  الإرهاق والتعب ؟ بعدما  كنت  آمنة  مطمئنة  لما  ألبستني  لباس  الخوف  والعذاب ؟ أين تكون حينما لا يرحم ذلك المجرم ضعفي ؟  لما لا تتدخل لإنقاذي من القسوة التّي يعاملني بها ؟

ثمّ  ينتابها  انفعال  شديد... فتقول آمرك  ألاّ  تسمح  له  بإزعاجي  ... و المجيء  إليّ ... غدا  أرسله إلى غيري ، فأنا لا أطيقه  وابعث  عوضا  منه  ملك  الموت  فأنا أريد أن  أموت ... وحين انتهائها  من  لوم  الرّحيم  تنتقل  إلى  لوم  المجرم  قائلة أيّها المحتال لما  اخترتني أنا  بالذّات؟ لما  لا  تذهب  إلى  الأقوياء   فأنا  ضعيفة  البنية ولا  أتحمّل  وزنك  الثّقيل ؟

أيها  الحقير ماذا  فعلت  لك لتكون  قاسيا  وعنيفا  معي؟ لما  لا  ترحم ضعفي ؟ أيها  المجرم لماذا  تحاول  الاعتداء  علي وتتلذّذ  بإيذائي ؟

أيّها  السّفاح  لما  هاجمتني وجلست  فوق  صدري بكل  وقاحة،  وكأنك نزعت  قلبي  دون   جراحة ، وأدخلت  فيه  الرّعب والخوف  فشغلا  فيه  كل  المساحة .

وخوفا من أن ينتقم منها تقول وهي  باكية:  سامحني  لأني وصفتك  بهذه  الصّفات  القبيحة  لكن أعترف لك بصراحة أني  سئمت  منك...فدعني  وشأني أرجوك... لكي  أحسّ  بالرّاحة .

وحين  تنتهي  من  لوم  هذا  المجرم  تسخط  على  نفسها ، ربّما حدث  معي   ذلك  الأمر لأني  يومها لم أستجب لطلب  أمي حينما  دعتني  لقص  شعري ،أو  ربّما لأني لم ألبّي نداء  أبي حينما  أراد  مرافقتي له  لزيارة  أحد  الأقارب.

عانت وفاء  من  دهشتها  وحيرتها  ما عانت،  وضاقت بها الأرض بما رحبت، وشعرت  وكأنّها ذلك  الحجر  الصّغير الذي  وصفه  إيليا أبو ماضي في   قصيدته المشهورة:

 

سمع  اللّيل ذو  النّجوم  أنينا                 وهو يغشى  المدينة  البيضاء

فانحنى  فوقها كمسترق  الهمس             يطيل  السّكوت  والإصـــغاء

فرأى أهلها نياما كأهل الك                    هف  لا  جلبة  ولا  ضوضاء

ورأى  السّد خلفها  محكم  البنيان            والماء  يشبه  الصّحــــــــراء

كان  ذلك  الأنين من  حجر  في  السّد       يشكو  المقادير  العميــــــــاء

أيّ  شأن يقول في  الكون  شأني             لست  شيئا  فيه  ولست  هبـاء

لا رخام  أنا  فأنحت تمثالا                    ولا صخرة تكون  بنــــــــــــاء

لست  أرضا  فأرشف  الماء                  أو ماءا فأروي الحدائق  الغـناء

لست درا تنافس الغادة  الجو سناء            فيه  المليحة  الحسنـــــــــــــاء

لا أنا  دمعة  ولا  أنا  عين                     لست  خالا أو  جنّة حمـــــراء

حجر أغبر أنا وحقير لا جمالا                لا حكمة، لا مضــــــــــــــــاء

فلأغادر هذا الوجود وأمضي                  بسلام إني كرهت البقـــــــاء

 

وبينما كانت  كل  هذه  الصراعات تأخذ  ببالها  مدا  وجزرا... بدأت  تندب  حضّها   التّعيس....والعبارات تخنق صوتها  المكسور  الضّعيف فقالت:

وا رأساه ........."يا  ليتني  متّ  قبل  هذا  وكنت   نسيا  منسيا "

وهكذا مرت  الأيام  واللّيالي ... وذات  ليلة استيقظت  أختها  الصّغرى  وبدأت  تستغيث بأعلى  صوتها .. أمّاه..أبتاه....فاستفاق الأبوين مذعورين  واتجها  إلى  الغرفة  التي  صدرت  منها  الاستغاثة ... ارتمت  الابنة  في  أحضان أبيها ، أمّا  الأم بدأت تفتّش الفراش ظنّا منها  أنّ حشرة  ما  لسعت  ابنتها ... هدّأ  الأب من روع ابنته ، ثمّ أخبرته بالذي جرى... لقد زارها المجرم هي الأخرى .

 

تنفّست وفاء الصّعداء ....وشعرت  بنوع  من  الارتياح والهدوء  يسري  في  أوصالها  ويملأ  نفسها........فقالت  في  حوار  مُونُولوُُقي " لم  يأت إليّ هذه

اللّيلة، بل  توجّه  إلى  أختي... إذن سأنام دائما  بجانبها  كي يختارها  هي...

 

وعندما استفاقت من  أنانيتها قالت  مخاطبة  إيّاه:  إيّاك وإزعاج  أختي  المسكينة مرّة  أخرى  تعال إليّ أنا ، فلا  أتمنّاك لأيّ  إنسان  كان...  حتى  ولو  كان  ألذّ  الأعداء....

 

أتدرون ماذا حدث لوفاء وأختها؟

إذا حلمتم  يوما بأنّ هناك شيئا  ثقيلا على  صدوركم  يراقب  نفسكم ، أو  أنّكم كنتم  تحاولون الهروب  من خطر  معيّن لكنّكم لم  تستطيعوا الرّكض أو  تنظيم حركات  أرجلكم ، فإنّ ما أسمته وفاء بالمجرم قد زاركم أنتم أيضا، وعلميا تسمّى  هذه  الظاهرة  شلل  النّوم  أو  الجاثوم ، وهي تجربة  مرعبة  تحدث أثناء  الخط  الفاصل بين  اليقظة  والنّوم ، وتصاحبه  هلوسات  مخيفة ...تستغرق ثوان أو عدّة  دقائق، وخلالها يحاول  المريض  طلب  المساعدة أو  حتى  البكاء لكن  دون  جدوى ، وتختفي الأعراض  مع مرور الوقت عندما  يلامس  أحد  ما   المريض أو عند  حدوث ضجيج.

 

ويقول سامي  محمّد ملحم في كتابه علم  نّفس  الطّفل:  "أن في العصور  الوسطى  كان  يعتقد  أنّ  مثل هذه الكوابيس من  عمل  الشّياطين المسمّاة (أنكوبي ،ساكوبي) ومفرد ه (أنكوباس ، ساكوباس) وأنّهم شكل من  أشكال العقوبة ،أي أنّها بعثت لندفع ثمن  خطايانا  فيجلسون فوق  صدورنا ، ويلاحظوننا بشكل شيطاني "، كما  يرى فوسولي في  كتابه  الكوابيس  أنّ  تلك  الشّياطين تحاول  خنقك، وربّما يقيمون  علاقة  جنسية  معك.

وهذه المخاوف  اللّيلية هجمات  قلقية تلاحظ على  نحو  خاص عند  الأطفال  اللّذين ينفصلون  عن  أمّهاتهم ، وخاصة إذا  استمر  هذا الانفصال مدّة  تزيد عن  أربعة  أسابيع يقضونها  في  المستشفى  لأجل  العلاج ، أو عند  الأصدقاء  أو  الأقارب ، وتقل تلك  الكوابيس  والمخاوف  اللّيلية عند  الأطفال غير المنفصلين  عن  أمّهاتهم أو  أسرهم.

وفي دراسة لجمس  أنتوني تحدّث فيها عن المخاوف  اللّيلية  يقول: "  يكون  الطفل في  ساعة  متأخرة  من اللّيل جاثما  على  سريره   أو ملتويا حول  ذاته في  حالة من الهيجان والخوف  الشّديدين ، ويحدّق أمامه بعينين  جاحظتين ، ويصرخ فزعا ،ويبدو أنّّه غير  مستيقظ  تماما ،حيث لا يستطيع تمييز النّاس  كما  يفقد الإحساس  بالزّمان  والمكان ولكنّه يجيب عن  الأسئلة التي  توجّه  إليه ويستجيب  تدريجيا للإيحاءات المهدّئة  التّي  تعيد  الاطمئنان  إليه."

ولمعرفة  ما الذي يحدث للدّماغ في هذه  الظاهرة   الغريبة يقول  الدّكتور أحمد  سالم  باهمان وهو استشاري أمراض الصّدر  والنّوم :" من  الثابت  علميا  أنّ  النّوم يتكوّن من عدّة  مراحل  أحد  هذه  المراحل يدعى  حركة  العين  السّريعة وتحدث  الأحلام في  هذه المرحلة ،وقد  خلق  الله  عز وجل آلية تعمل لتحمينا  من تنفيذ  أحلامنا، تدعى  هذه  الآلية ارتخاء  العضلات وارتخاء العضلات يعني أنّ جميع  عضلات  الجسم  تكون  مشلولة  خلال  مرحلة  الأحلام   ماعدا عضلة   الحجاب  الحاجز وعضلات العينين ،فحتى  لو حلمت أنّك  الرّجل  الخارق   سوبرمان ، فإنّ آلية  ارتخاء  العضلات تضمن  لك  بقاءك  في  سريرك ، وتنتهي  هذه  الآلية   بمجرّد انتقالك  إلى مرحلة  أخرى  من  مراحل النّوم أو استيقاظك  منه ،إلاّ  أنّه في  بعض الأحيان يستيقظ  المريض خلال مرحلة حركة العين  السّريعة ، في  حين أنّ  هذه  الآلية  لم  تتوقّف بعد ، وينتج  عن  ذلك أن يكون المريض في  كامل وعيه ،ويعي ما حوله ، ولكن  لا  يستطيع  الحركة  بتاتا ،وبما أنّ  الدّماغ  كان  في  طور  الحلم فإنّ  ذلك قد  يؤدّي إلى   هلوسات مرعبة ، وشعور  باقتراب الموت  أو  ما شابه  ذلك ، ومن المعروف أنّ الضّغط النّفسي والتّوتر إضافة إلى  عدم  كفاية  النّوم  يزيد  من احتمال  حدوث  هذه  الأعراض ولتقليل احتمال  حدوث  ذلك ينصح  بما  يلي:

- الحصول على  القدر  الكافي  من  النوم .

- أكل  وجبة  عشاء  خفيفة.

-  ممارسة التمارين الرياضية.

- التقليل  من  مختلف  الضغوط  التي  نتعرض  لها.

- المحافظة  على  جدول نوم  واستيقاظ منتظم.

ولمعرفة كيفية التعامل مع الكوابيس يوصّي بطرس حافظ بطرس في كتابه المشكلات النفسية وعلاجها الأمهات بما يلي:

حينما يتعرض الطفل للكابوس:

- كوني هادئة فرُعب النوم يُرعب الوالدين أكثر من الطفل.

- اذهبي  للطفل عند  سماع  بكائه ، أيقظيه  من  النوم وطمئنيه وحسّسيه  بوجودك وأنّك  لن  تدعي  شيئا  يصيبه.

-أخبري إخوته عمّا  يجب عمله عند  حدوث  الحالة ، وعدم  الخوف  منها.

- يستحسن  عندما  يهدأ الطفل  تشجيعه  للنوم  مرة  أخرى.

أما بعد...

أريد أن أقول لكم  أن بعض العلماء يقولون  أن هذه  الظاهرة مرض  نفسي ويقول  البعض  الآخر  أنه جني ، وآخرون يرون  أنه لاشيء...بل  مجرد  تخيّل  ووهم بسبب  الإرهاق  والتعب ، ومهما  يكن أحب  أن أذكركم بألاّ  تنسوا الأذكار التي  تركها  لنا حبيبنا  عليه  الصلاة  والسلام.

أمّا  الذين لم  يعيشوا هذه  التجربة  فاحمدوا  الله واشكروه  واسألوه  العفو  والعافية ،ولا تنسوا  الدعاء لأختنا وفاء  لأنّها  ما  زالت تعاني إلى يومنا هذا من  شلل النوم، ولا تقولوا  في  أنفسكم كيف  لنا  أن ندعو  لها  وهي  تقضي اللّيالي  ساخطة  على  ما  قدّره  الله لها؟ اعذروها ...لقد كانت طفلة  صغيرة.....والآن كبرت وأدركت أنّ الله  لا  تأخذه  سنة  ولا  نوم وتحفظ قوله تعالى: "لا يكلّف الله نفسا  إلاّ وُسعها لها  ما  كسبت وعليها  ما اكتسبت"

"من  عمل  صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما  ربّك بظلاّم للعبيد"

"واصبر على  ما أصابك  إنّ  ذلك  من  عزم  الأمور"

أما وفاء فلا تملك إلاّ أن تتوجّه إلى كلّ من سهر معها ومن أجلها، وكلّ من باتت يده في يدها ... واستيقظت على صوته المخلّص من رعب لا تتمناه لغيرها...بخالص الشكر والعرفان.

 

ختاما أريدكم أن تأمّنوا على هذا  الدعاء :

"ربّنا  لاتؤاخذنا  إن  نسينا  أو  أخطأنا ،ربّنا ولا تحمل علينا إصرا  كما حمّلته  على  الذين  من  قبلنا ربّنا ولا تحمّلنا مالا طاقة  لنا به، واعف عنّا  واغفر  لنا  وارحمنا أنت  مولانا  فانصرنا  على  القوم  الكافرين"

وأناشدكم الله ألا تبخلوا بالرجاء والدعاء بأن  يصرف  الله عن  وفاء ذاك  البلاء ، وأن  يشفي جميع  المرضى وأن يبسط  علينا  بساط الاطمئنان والهدوء والإحساس بالأمان ، وأن  ينزّل علينا الحفظة التي  تبشّرنا  أن  لا نخاف ولا نحزن .

صفحة الفايسبوك

التسجيل في الموقع

  • صلاح
  • kadchahed

فيــــــــــــديو : تحية لقراء مجلة حنين