ماذا يحصل في تلك المرحلة الحرجة؟
في كل عطلة أسبوعية، تجتمع الأخوات التسعة في ذلك المنزل المتواجد بإحدى القرى القريبة من الجبل، في غرفتهن الواسعة يربطهن الحب والأخوة والاحترام والتفاهم ولما لا وقد خرجن كلهن من نفس الرحم .
وحين يرخي اللّيل سدوله، يُسمَعُ لهن ضجيج مزعج وكأنك في شارع من الشوارع أو سوق من الأسواق، بسبب الضحك والثرثرة حيث تسرد كل واحدة منهن كيفية قضاء يومها، سواء في الابتدائية أم الاكمالية أم الثانوية أم الجامعة أم المنزل…حتى تخال أنك في خمّ دجاج.
وعندما يتعدّين الحدود يقوم الوالدان بالطّرق على الحائط الفاصل بين الغرفتين محدثين إنذار التذمر الذي يعني:" تأخر الوقت أخلدن للنّوم "…
حتى الإخوة الذكور لا يسلمون من الضجيج والإزعاج، رغم بُعد غرفة البنات عن غرفتهم… وحين يبلغ السيل الزبى تسمع لهم احتجاجا قد يتحوّل إلى تهديد من نوع خاص:
" من لم تكف عن الثرثرة والإزعاج سيخبّئون أحذيتها ومحفظتها الخاصة وستعاني كثيرا في البحث عنها"، هذا بالنسبة للّّصغيرات منهن أما الكبيرات فالتهديد يتمثل في عقوبة مفادها أن:" يركز الأخ الأكبر على صاحبة الصوت المسموع، يصطاده يسجله في ذاكرته وفي الصباح يصدر أمر عجن أكلته المفضّلة: لسفنج* …وما على الضحيّة إلا السمع والطاعة والتشمير عن ساعديها، ولعن لسانها وصوتها الذي فضحها، أما الأخريات فيضحكن على حظّها...
أما الأخ الأوسط فيطلب منها "غسل جواربه، وإن لم تلبّ طلبه يقوم بغسلها بنفسه…على فكرة جواربه ذات رائحة كريهة لا تطاق…..
أما الأخ الأصغر ونظرا لتعبه من تنظيف أقفاصه في كل عطلة أسبوعية، فإنه يختار إحداهن ويطلب منها تنظيف الأقفاص الخاصة بأرانبه وعصافيره حتى وإن لم يسمع أي صوت ….مايميز هذا الأخ أنه قبل أن يصدر لهن أي أمر، يبتدئ بمقدمات طويلة من المدح والثناء والعرفان بالجميل، ثم يمرّر الطلب بكل ديبلوماسية وما على المأمورة سوى قول " شبيك لبيك وأنا بين يديك ".
هكذا تعيش الأخوات التسع في منزلهن المتواضع تحت رعاية وحماية الأبوين اللذين يجمعهما حب كبير، إضافة إلى إخوانهن الثلاث، الذين لا يكفّون عن ممازحتهن وإضحاكهن و الاستهزاء بهن، ومعاقبتهن أحيانا.
وتجتهد الأخوات التسع ساعيات للمحافظة على ما يربطهن من ود،رغم تدخل الغيرة أحيانا نظرا لفارق السن بينهن والذي لا يتعدى السنتين، إضافة إلى الأنانية التي تفرض نفسها بقوة عندما يتعلّق الأمر : "من سيغسل الأواني؟" فحين يطرح هذا السؤال،تكثر الأعذار والحجج فتسمع الأخت الصغرى تقول:" آي أمي ضرسي توجعني "…وتقول أخرى :" يا إلهي...غدا لديّ امتحان في غاية الصعوبة والتعقيد يحتاج للوقت والتركيز "...فلا يغسل الأواني إلا من لم يستحضر حجة في الوقت المناسب
ورغم تعدد الشخصيات، وتعدد الطبائع، وتعدّد طرق التفكير...رغم كل هذا تبقى الأخوات التسع محافظات على ما يربطهن من حب وود.
وهكذا تمر العطل الأسبوعية ،وفرحة الأخوات باجتماع شملهن في غرفتهن التي ولدن كلهن تقريبا بداخلها. لا يعكّرها أي شيء.
لكن عطلة هذه المرة ليست ككل العطل، فقد حدث أمر خارق للعادة... لم يُسمع أي صوت يصدر من تلك الغرفة…أجواء غير معتادة خيمت على الجميع، حتى استغرب الإخوة من ذلك السّكون الصامت الذي احتوى البيت…فتوجّهوا إلى غرفة الأخوات، ولما فُتح لهم الباب سألوهن: مابكن ؟...فلم يُجَب على سؤالهم، فتزّعم الأخ الأكبر استفتاح المزاح قائلا:"هل ابتلعتن ألسنتكن أم أن أمّنا تحولت فجأة إلى جزّارة فقامت بتقطيعها؟
ثم قاطعه الأخ الأصغر:"ثرثرن كما يحلو لكن....من الآن وصاعدا لن أطلب منكن تنظيف الأقفاص...ولما رأوا أنهم يخاطبون أصناما جامدة أعادوا طرح السؤال : مابكن ؟ فأجابت واحدة منهن بانفعال شديد :أُتركونا بسلام،أنتم تخرجون من المنزل قبل طلوع الشمس ،وتدخلون إليه بعد غروبها، فكيف لكم أن تعرفوا ما بنا؟
كل واحدة كيف أعلنت جوابها الخاص...حتى انسحب الإخوة من غرفتهن مكسوري الأجنحة، لم يصلوا إلى مرغوبهم، ولم يتحصّلو ا على أجوبة شافية لأسئلتهم، ولم يفهموا سبب الهدوء والسّكينة التي غمرت الغرفة.
وبعد خروجهم نطقت إحداهن قائلة:
- كانت أمي على دراية بمرضي لذا لم ألتحق بمقاعد الدراسة...رغم هذا إلاّ أنها اتهمتني بأني أدّعي المرض.
وقالت الثانية:
- لقد تلقيت منها صفعة أحسستني بالدوار ،والسبب أني ضحكت ضحكة تجاوزت نوعا ما الحدود، لأني لم أتمالك نفسي أثناء زيارة الجدة المريضة فمثلتها بقصة الثرثار ومحب الإختصار أثناء فقلت : ماتت والسلام.
وقالت الثالثة والتي كانت تدرس في ثانوية داخلية:
- أخبرتها أني اشتقت لأبي كثيرا، فالقلب يفرح حينما ترى العين من تحب...
وأضافت:
- لقد كنت غبية حينما طرحت عليها سؤالا بريئا جريئا...قلت: وأنت أمي هل اشتقت لأبي؟ لما سمعت هذا السؤال لم أعلم ماذا انتابها فأمسكت بمقلاة ووجّهتها إليّ بكل عنف، ولو أني لم أتمايل قليلا لكنت الآن في رحمة ربي وهي خلف القضبان.
وقالت الماكثة في البيت :
- لما نضج الطعام تركتُ القِدر على الفُرن ظنّا مني أنّي أطفأته لكنه لم ينطفئ فاحترق الطعام، ولما اكتشفت أمي ذلك اتهمتني بالإهمال وأخبرتني أني لا أصلح لأن أكون ربة منزل، وإن تزوجت سيطردني زوجي أو حماتي...وأسمعتني كلمات جارحة.
قالت الصغيرة:
- في هذه الأيام حينما أتفوه بأي كلمة، تقاطعني قائلة :"حينما يتحدث الكبار يسكت الصغار".
وأضافت متحسرة:
- لقد كانت تتفقد أغطيتنا كل ليلة...لكنها منذ حوالي ثلاث أيام لم تفعل ذلك، وقد شعرت ليلة البارحة ببرد شديد لأن غطائي سقط مني ولم يجد اليدين اللتان تعودا على إعادته إلي.
وأضافت الماكثة في المنزل:
- لقد تغيرت أمّنا كثيرا، ولم أعتد على أسلوبها الجديد في التعامل لدرجة أني أسأل نفسي :أيعقل أن تكون هذه المرأة من حملتني في أحشائها تسعة أشهر؟
وقالت أخرى:
- حتى أبانا المسكين لم يسلم من مزاجها السيّئ الذي لا يطاق...لقد تشاجرت معه حتى ظننت أنهما سينفصلان...ورُسمت في مخيلتي صورتهما وهما يخيّرانني مع أيّ منهما سأعيش.
وقالت تلك التي كانت تدرس في الجامعة:
- أعترف أني أغضبتها...لكن ما كان عليها إخباري بألاّ أعود للمنزل في الأسبوع المقبل، وأن أبقى في الإقامة الجامعية، الحق أقول لكن صرتُ لا أفهم التناقضات التي تعيشها...كيف لها أن تدعو الله أن يتعامل مع أبنائها برفق، وفي المقابل تتفنّن في مضايقتنا.
وسُمعت تمتمة من إحداهن قائلة:
- صدقت الأفعى إذ تقول"رُغم أنّ البشر يلعنوني كل يوم، إلاّ أنني أبقى أفضل من الكثيرين منهم، فأنا عندما ألدغ أحدا فإنني على الأقل لم أبتسم له أبدا".
وبعد فراغ كل واحدة منهن من شكواها، وتذمرها، وتحسّرها لاحظن أنّ الأخت الكبيرة لم تنطق بأي حرف فسألنها:
- وأنت أليس لديك ما تقولين ؟
فأجابت:
- يا ناكرات الجميل والمعروف، عوضا من تكسير رؤوسكن بتذكّر تلك المواقف...لما لا تبحثن عن السّبب الذي غيّر أمّنا...فقاطعتها الصغيرة،
- السبب؟ لقد ندمت لأنها أنجبتنا، وصارت تكرهنا ولا تتمنى رؤيتنا ولا سماع أصواتنا.
فقاطعتها الكبيرة باستهزاء:
- حينما يتحدث الكبار فليسكت الصغار "...
وأضافت بجدية مبالغ فيها:
- رغم قسوتها علينا في هذه الأيام، إلاّ أنها مُتخفية خلف غريزة الأمومة، والحب الأمومي، وإن أعدَدنا معاناتها وتضحيّاتها من أجلنا فلن نحصيها...وتيقنّ أنه مادام يوجد بين ضلوعها قلب ينبض فمن أجل أبينا وفلذات كبدها، فلا تقلقن وأخلدن للنّوم واحمدن الله أنّ لنا أما منحتنا الحياة وأشبعتنا الحنان.
ما الذي غيّر الأم؟
يقول هيلين دوتش في كتابه علم نفس المرأة الذي ترجمه جورج معصب أن نهاية فترات الطمث عند المرأة تدلّ على أن الإباضة توقفت، وأن نشاط كامل الجهاز الغددي انقطع أو خفّ، وأن الأعضاء التناسلية ضمرت، ويُظهر باقي الجسد شيئا فشيئا علامات الشيخوخة، وتدعى هذه المرحلة من حياة المرأة : "سن اليأس"، أو تراجع العمر، وبمعنى أشمل، تبدّل الحياة أو سن الكهولة.
إنه عمر حرج بالفعل، ويمكن لبعض التأثيرات أن تغيّر النشاط الهرموني وأن تفعل فعلها على كامل الجهاز النفسي، وبلا ريب فإن ضبط ردود الفعل النفسية عند الانحطاط العضوي يعدّ من أصعب مشاكل المرأة في هذه المرحلة.
لسنّ اليأس عادة مرحلة تمهيدية تتميز ببعض الظواهر التي تنذر بالنّهاية، حيث يصبح الطمث غير منتظم، ويظهر بفترات تطول أو تقصر، والسيلان يزيد أو يتضاءل كما تظهر اضطرابات وعائية حركية، مع "نفحات حرارة" مميزة، بالإضافة إلى إحساس بالدوار، والتعرق، وتترافق هذه المؤشرات غالبا مع صداع، وألام عصبية...إلخ.
وبشكل عام، جميع التوعكات الجسدية الذاتية تعتبر من خصائص سن اليأس وتفسّر بتعديلات الوظيفة الغددية، وهناك أعراض نفسية تظهر في تلك الفترة، مثل الأرق وحالات القلق، وقابلية التأثر والتهيّج، والاكتئاب.
وجميع تطورات سن اليأس، تتحدد دون أي شك بما يلي:
عند انقطاع النشاط المبيضي يتشوّش باقي نظام الغدد الصماء، ومع ذلك، تخضع المظاهر الفردية لسنّ اليأس إلى حد كبير لشخصية المرأة، وفي هذه الفترة وبعد عدة سنوات ستنقطع المرأة عن عملية التكاثر، فتشعر بالحاجة الملحة لأن تصبح حاملا و تعيش الأمومة من جديد ، رغم انشغالها بمشاكل أولادها الكبار، وقد ينجبن ولدا أو ولدين بصورة متأخرة...قبل إغلاق الأبواب إن صح القول.
وتتحرك ثورة نشاط ماقبل سن اليأس، وتلعب مؤشرات داخلية وخارجية دورها في هذا الطور، ومن بين المؤشرات الخارجية نجد الانعتاق الوشيك أو الذي ابتدأ مسبقا من الأولاد ،وقطع الحبل السري النفسي من جهة الأولاد.
ويتشابه الموقف العاطفي للأم المسنّة مع موقف الفتاة الصغيرة المقتربة من البلوغ تشابها قويا، حيث في تلك الفترة أيضا، تتراخى الصلة بين الأم والولد، وتتوجه الطاقة النفسية للولد نحو غايات جديدة.
ومع اقتراب سن اليأس، تصبح الأمومة مستحيلة، ويتوجه هذا النشاط المحروم نحو أهداف أخرى ولكي نعرض الأمور ببساطة، نقول أن موقف المرأة هو التالي :"إن لم أستطع إنجاب أولاد فعليّ السعي نحو أمر آخر" .
وتعتبر ثورة النشاط احتجاجا من المرأة، وإثباتا على أنها ليست فقط خادمة للنوع أو آلة لصنع الأطفال وأن لديها مراكز فكرية أرفع شأنا، وحياة عاطفية معقدة تتعدى الأموم، ويمكنها بهذا، إيجاد مخرج للتعقيدات البيولوجية.
ولا ننسى بأن نذكّر أن أي امرأة لا تتخلى عن الأمومة بشكل فعلي، مادام هناك فقدان شهري للدم أو حتى غير منتظم، وهنا أيضا يمكننا إجراء مقارنة مع مرحلة البلوغ حيث تمثّل كل فترة طمث وعدا أو خسارة لطفل.
يهيمن المركب الإجابي:" لازلت في فترات الحيض، ولا زال بإمكاني الإنجاب" لدى نساء ما قبل سن اليأس، ففي هذه الحالة لا تكون فترات الطمث إلاّ رمزية، إذ أن المرأة قد تخلت حقا عن أطفال جدد، لكنها لا زالت ترغب بإظهار حيويتها من الناحية البيولوجية.
وقبل فترة قصيرة من سن اليأس نلاحظ عدوانية شديدة في سلوكات المرأة ما يفسّر بفقدان الأعضاء التناسلية لوظيفتها وإحساس المرأة أنّ أعضاءها ستصبح قريبا عديمة الفائدة، وبالنسبة لفتاة صغيرة فعندما يكون الحيض مِؤشرا للنضج، هو أيضا تجربة تحمل في طياتها القلق النفسي والإحباط ويمكن للزّوال المفاجئ للحيض بعملية ما أن يكون له نفس المعنى إلى حد كبير.
يشير الدكتور نجيب ليوس في كتاب الطّريق الصحيح لتشخيص وعلاج العقم أن سن اليأس هي مرحلة انقطاع الدورة الشهرية لفترة تزيد عن 6 أشهر وهي ظاهرة طبيعية تحدث لدى كل النساء عندما تصل المرأة عمر 45-55سنة وتمثل مرحلة انتقال من سن الخصوبة إلى مرحلة عدم الإنجاب والسبب غالبا ما يكون انتهاء عدد البويضات الموجودة في المبيض، وبالتالي توقف المبيضين عن إنتاج هرمون الأستروجين، ويصاحب هذه المرحلة الكثير من الأعراض والتي تختلف شدتها من امرأة إلى أخرى.
وغالبا ما تصل المرأة إلى سن اليأس بصورة تدريجية حيث يحدث عدم انتظام في الدورة الشهرية في السنة التي تسبق سن اليأس، حيث تحدث الدورة في فترات متقاربة ثم تبدأ بالتباعد في كل شهرين أو أكثر.
ويواصل في كتابه موضحا لنا أعراض سن اليأس التي تتمثل في:
1-الشعور بنوبات حرارة في الوجه والرأس، والتعرّق الكثير وتحدث في 70-80 بالمئة من النساء في هذه السن وتختلف شدة هذه الأعراض من سيدة إلى أخرى.
2- عدم القدرة على النوم والكآبة والقلق وتغيّر في المزاج.
3- ألم عند الجماع وذلك لأن نقص هرمون الأستروجين يؤدي إلى قلة إفرازات المهبل وبالتالي جفافه وضمور جدار المهبل وبالتالي الإحساس بألم عند الجماع.
4- عدم السيطرة على البول وخاصة عند السعال بسبب ضمور جدار المثانة والإحليل وكثرة الإصابات بالتهابات مجرى البول.
5-تصاب النساء في سن اليأس بلين العظام أو هشاشة العظام حيث تقل كثافة العظم وتشعر المرأة بألم في العظام غالبا في الرسغ وفقرات الظهر وتكون هذه الأخيرة عرضة للكسر بعد سن السبعين وقد وجد في دراسة أن 25بالمئة من النساء في هذا السن مصابات بكسور الفقرات و15 كسرا في الحوض و35 كسرا في الرسغ، وأشاروا أن المرأة ذات البشرة البيضاء أكثر عرضة للإصابة بهشاشة العظام من المرأة ذات البشرة الداكنة، وكذلك المرأة نحيلة الجسم أكثر عرضة لهشاشة العظام من المرأة المصابة بالسمنة، والتدخين من العوامل التي تؤثر على التمثيل الغذائي لهرمون الأستروجين، ويزيد من هشاشة العظام في سن اليأس سواء للمرأة أو الرجل.
6- إصابة المرأة بأمراض مثل عجز الكلية، وقلة وظائف الكبد.
ورغم أن المرأة عرضة لمثل هذه المضاعفات إلاّ أن قوتها وإصرارها على الحياة يجنّبها ما يقلّل من حيويتها ونشاطها، وشبابها ونضارتها، دون أن تنحني أمام تململ زوجها منها.
وللجواب على سؤال: هل سن اليأس عند المرأة يلغي متعة المعاشرة الزوجية ؟ يوضح لنا جمعة أبو شاويش أن نفسية المرأة وعواطفها تهدآن فقد أكسبتها خبرة السنين نضوجا لا يستهان به، لكن هذا الهدوء لا يعني ركودا بل لابد أن تدرك أنه لا يزال لها دورا على مسرح الحياة، فالمرأة المثقفة تعتبر هذا العمر فرصة لمزيد من المعرفة وتوسيع دائرة اهتماماتها في الأنشطة الاجتماعية المختلفة لخدمة الآخرين، وكأن الحياة تبدأ معها في هذه المرحلة ،أما المرأة ذات الثقافة القليلة فيبادرها الشعور بأنّ دورها انتهى بعد أن كانت تدير البيت والكل يخضع لها، فالبساط ينسحب من تحت أقدامها وقد تمركزت بدلا منها زوجات الأبناء، وينتابها الشعور أنّها مهمشة، وهنا تسيطر عليها الحسرة وربما الرغبة في الاختفاء، وتكثر خلافاتها مع من حولها ويصيبها تعكّر المزاج والقلق وتمثّل دور المكتئبة المريضة لكي تلفت الانتباه وتكسب اهتمام من حولها وقد تشتد حالتها النفسية لتصل إلى الشيخوخة المبكّرة، وتصاب بحالة من الاكتئاب والخرف وتحلل الذاكرة وأيضا الهلوسة السمعية.
وهذه المشكلة ليست بداخل المرأة فحسب بل في المجتمع الذي جعل منها أزمة مستعصية حتى أن البعض يشبّه المرأة في هذه المرحلة " بالأرض البور" وما هذا إلا جهل وكلام لا يعتمد على أساس علمي، فأعمار النساء لا تنتهي اجتماعيا أو جنسيا عند بداية تلك المرحلة، بل تعتبر لدى الكثيرات أنها مرحلة نشاط وحيوية فالتقدم في السن يعني عند الناجحين مكانة أسمى، بما يمثل من زيادة وتراكم في الخبرة بفعل التجارب العديدة التي مررن بها ،ليبدأ التوازن النفسي والنضوج الذّهني والفكري في هذه المرحلة.
أما بالنسبة للعلاقة الجنسية فهي لا تتحدد بعمر معين، فالمرأة في هذه السن رغم انقطاع الدورة ،تستمتع بهذه العلاقة كما في السابق لذا فإن اعتقاد المرأة بأن دورها انتهى ولابد لها من الكف عن مشاركة زوجها من ممارسة علاقتها الزوجية ،هو اعتقاد خاطئ فالعديد من النساء تزداد علاقتهن بأزواجهن في هذه المرحلة، إذ يزول خوفهن من الحمل الذي كان يسيطر عليهن من قبل، وأيضا انتهاء مسؤولية الأبناء والشعور أن ليس للفرد منهما إلا الشريك الآخر يساعد بقوة على تحقيق علاقة حميمية بينهما...والعامل النفسي عند المرأة في هذه المرحلة هو الأهم في عملية الوصال، وليست أيام الشباب بأجمل من هذه الأيام التي غالبا ما تكون عند الكثيرين أجمل وأروع، فالعاطفة ستكون ناضجة ويكون للحب طعم آخر أكثر عمقا ،وسينعكس ذلك على العلاقة الجسدية التي ستتّسم بالعاطفة والهدوء والطمأنينة، فبحكم تجاربها صارت تعرف وتشعر بصدق العاطفة، وتعرف لغة الجسد بشكل أفضل، لتكون هذه المرحلة بداية حياة جنسية جديدة ملائمة بأسلوب إيجابي يلائم تطور عواطفها، ورغبتها في الاتصال مع زوجها.
وتتميّز هذه المرحلة بالهدوء لدى الطرفين، و في مقابل التغير الذي تواجهه المرأة في جسدها يحدث للرجل أيضا تغيرات جسمية وعاطفية كبيرة، وكما تهبط عند المرأة معدلات هرموناتها، فكذلك الحال عند الرجل إذ يمر بمرحلة مختلفة عن أيام الشباب لانخفاض معدل الهرمونات الذكرية لديه، إلاّ أنه يظلّ لديه القدرة على الإنجاب، ولكن مع هذا الاختلاف نجده يشاركها في أكثر التغيّرات الجسمية والعقلية الأخرى، دون التأثير على حياتهما الجنسية، وتحقيق انسجام وتوافق مميز في حياتهما معا.
أتمنى أنكم فهمتم ماذا يحصل في تلك المرحلة الحرجة ؟ وأنكم أدركتم سبب تغير مزاج تلك الأم، واستوعبتم التغيّرات النفسية والجسدية التي مرّت بها وستمر أيضا على الكثيرات فيما بعد، فأرجوكم تفهّموا أخواتكم وأمهاتكم وزوجاتكم... ولا تستغربوا شدة تأثّرهن وانفعالهن بشكل حاد لأتفه الأسباب.
واعلموا أن أعظم شيء تحتاجه أمهاتكم في تلك المرحلة، هو لمسة على اليدين وقبلة على الجبين ،ورسم ابتسامة على الخدين.
يؤسفني أن أخبر كم في الختام أنّ تلك الغرفة الواسعة التي تضم الأخوات التسع، لا يُسمع منها أي ضجيج الآن، فبهضهن تزوّج وصرن يحبن أمهن أكثر من ذي قبل، لأنهن الآن يدركن معنى الأمومة، وما معنى أن تحملك أمك في أحشائها و أن ترضعك...والبعض يكمل دراسته وأخرى تشتغل، ولكم أن تتصوّروا حال تلك الغرفة في فصل الصيف حين تحضنهن جميعا، خاصة وأنهن رُزقن وسيُرزقن بالبنات والبنين...على فكرة أولادهن أكثر مشاكسة مما كن عليه.
أما الإخوة الذكور، فالكبير متزوّج مستقل في بيته، رزقه الله بطفل في غاية الذكاء والجمال والعناد- فليحفظه الرب- .
أما الأوسط : فيدرس حاليا في الثانوية، وهو بصدد التحضير لشهادة البكالوريا فلا تنسوه في دعائكم.
أما الأصغر: فلم يوفّ بوعده ومازال يطلب من أخواته تنظيف الأقفاص، وهو الآن يعيد السنة الثانية متوسط لأنه يحب عصافيره وأرانبه أكثر من حبه للدراسة.
أما الأب الحنون والله لا أجد الكلمات التي توفيه حقه في كيفية تعامله مع أهله وخاصة بناته.
أما الأم المبالغة في إخفاء حنانها الأمومي فقد اعترفت لبناتها أنها ظلمتهن وقدّمت اعتذارات لهن...وحين يقول لها أحد أبنائها بأنه يحبها، لا تكترث لذلك لأنها تنظر للأفعال وليس للأقوال، و حين يعبّر أبناؤها عن مشاعرهم وأحاسيسهم النبيلة تحدّق في وجوههم مستغربة وكأنها تقول في نفسها " هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
أسأل المولى جل وعلى أن نكون من الذرية الصالحة التي سيوفقها لبر الوالدين وأن يحفظ والدينا، ويسترهما ويمدّهما بالصّحة والعافية والعقل وأن يطوّل في أعمارهما وأن يغفر لهما وأن يجمعنا بهما في جنات الفردوس مع أشرف خلق الله وأن يجعلنا من عباده الذين وصفهم في سورة الفرقان:"وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالو سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، والذين يقولون ربنا إصرف عنا عذاب جهنم إنّ عذابها كان غراما، إنها ساءت مستقرا ومُقاما، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلاّ من تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا، والذين لا يشهدون الزّور وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كراما، والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا، والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماما"
من أجل أن نندرج في ذلك الحديث الذي ينصّ على أنّ ابن آدم إذا مات ينقطع عمله إلا من ثلاث ومن بينهم"ولد صالح يدعوا لهما" فعليك الصلاة والسلام يا رسول الله.
وأنتن يا بنات جنسي، أدعوكن لاغتنام فرصة تلك المرحلة – إن كان في العمر بقية - وأن نسخّرنها لصالحكن، وأن نكون نساء عصرنا وأن نعتبر ذلك التوقيت فرصة لتجديد حيويتنا وللعمل بجد على تجميل نفسيّاتنا ومشاعرنا، ونكون متفائلات بالحياة بشكل أكبر وأن نمحو من قواميسنا سن اليأس ليكون سن الأمل.
أما أنتم فكونوا شجعان، وإياكم من الاستسلام لأي ظرف من الظروف في أن يكون سبب للتقصير وإهمال تلك التي هي أحق بصحبتكم من أي مخلوق آخر بثلاث درجات فلا تنسوا أمكم......ثم من؟...أمكم....ثم من؟...أمكم.
واعلموا أنّ أمهاتكم سيصبرن حتى يملّ الصبر منهن، وسيصبرن حتى يعلم الصبر أنهن صبرن على أمور أمرّ من الصبر.
وأود الإشارة في الختام إلى أنّ ذلك المنزل الذي حطّمتُ أسواره – التي لا وجود لها - واستضفتكم فيه هو منزل عائلتي التي أفتخر لكوني فردا من أفرادها، وأرجوا أنكم استمتعتم بدخولكم إليه، وأنّي رحّبت بكم كما يجب.