عند ربهم يرزقون 1

تصادف وأنا في أول يوم لي في دمشق صيف 2007، أن استقلت سيارة أجرة لتوصلني من جوار سوق الحاميدية الشهير إلى حي الصالحية حيث كنت أدرس، سألني سائقها عن بلدي بعد أن تأكد أن لهجتي تختلف عن لهجة أهل الشام، أخبرته بكل فخر أني من الجزائر وأن هذه أول زيارة لي إلى سوريا، تهلل وجهه سرورا وقال:ـ إذن لديّ سؤالان لك وإن أجبتني عليهما أعطيك كل ما تريد، شعرت من طريقة كلامه كأنه أراد الإيقاع بي في فخ ما، ودون مقدمات طرح سؤاله الأول : ـ كم يبلغ عدد شهداء الجزائر؟ تعمدت التريث في الرد لأجد له جوابا يخمد تحاذقه، قلت له:ـ هل تريد الحقيقة أم زوجة أبيها؟ إبتسم وقال:ـ المهم أن تعطيني رقما، أجبته:ـ قيل أن عددهم مليون ونصف المليون شهيد، ولكن هذا الرقم فيه الكثير من الإجحاف في حق الملايين الأخرى من الشهداء الذين طهروا بدمائهم تراب الجزائر منذ عام 1830.... وقبل أن أكمل كلامي قاطعني قائلا وقد اعتلت ابتسامة ماكرة وجهه : ـ أما السؤال الثاني: هل لك أن تذكر لي أسماء هؤلاء الشهداء؟ أطلق بعدها قهقهات ضاحكا من أعماق قلبه ونظر إلي من المرآة العاكسة كأنه أراد أن يتلذذ بطعم إنتصاره عليّ، أدركت من ثاني سؤاليه ومن حاله تلك أنه حرص أن يكون أول سوري يسمعني أخر نكتة يتداولها أهل الشام في أيامهم تلك، ولأني أحب النكت مثله أو ربما أكثر منه قليلا سألته : ـ هل لديك متسع من الوقت لأسمعك أسماءهم؟ فأنا على أتم الاستعداد لألبي رغبتك الملحة، ابتسم وأدرك أخيرا أنه لن يهنأ أبدا بنصره المزعوم عليّ ...

و لكن .. لن أخفي عنكم أن سؤاله الثاني جعلني أقف مع نفسي مليًا، أ لا يجب أن نعرف أسماء من آثروا الموت لنحيا، وضحوا بالغالي والنفيس وسقوا بدمائهم الطاهرة أرض هذا الوطن؟ أ لا يجب أن نعرفهم وفضلهم كبير جدا علينا؟ أ لا يجب أن نعرفهم وهم فخرنا في الدنيا وشفعاؤنا يوم القيامة ؟

و بعد تفكير عميق عقدت العزم أن أبحث في الأمر، هي رحلة قد يصعب الوصول إلى نهايتها ولكن الشرف كله في المحاولة .

أول وجهة قصدتها كانت متحف المجاهد بمسقط رأسي بمدينة برج بونعامة، وأنا أتجول بين أروقته أتأمل بإجلال صور الشهداء وأقرأ بإمعان سيرهم وتاريخ كفاحهم وبطولاتهم أسمعني القيّم على المتحف يومها قصة جعلتني أتزلزل في مكاني وجعلت الدموع تعزو عينييّ، قال لي أنه لا يعرف كل التفاصيل ولكنه أرشدني إلى من يمكنه إرواء فضولي، وأخبرني أن مدير متحف المجاهد بتيسمسيلت يعرف القصة برمتها.

إذن وجهتي الثانية كانت المتحف عينه، سلمني مديره ـ بعد أن علم أني أقطن في بلاد القبائل ـ قائمة بأسماء عدد من الشهداء الذين ينحدرون من نفس المنطقة والذين استشهدوا في الونشريس، سألته عن القصة ذاتها التي جعلتني أشد رحالي إليه، أخبرني أن بداية الحكاية كانت بزيارة إحدى السيدات من بجاية تقتفي آثار والدها الذي إنقطعت أخباره إبان الثورة التحريرية والذي كان جنديا ضمن جيش الاحتلال بمنطقة الونشريس، قالت السيدة أن عمل والدها ضمن جيش العدو جعلها تشعر بالعار والخزي لأن المجتمع لم يرحمها يوما كونها إبنة الخائن، تغيرت مشاعر المرأة رأسا على عقب بعد العثور على وثائق وشهادات حية تؤكد أن والدها قد فر بسلاحه من ثكنة الجيش الفرنسي وإلتحق بالثوار في جبال الونشريس وقد إستشهد في إحدى المعارك الطاحنة بعد أن أبلى شجاعة في القتال لا مثيل لها، لم تسع الفرحة قلب السيدة وهي تسمع رفاق والدها في الكفاح يتحدثون عن بطولاته وشجاعته وكذلك عن يوم إستشهاده، ولم تقدر على منع دموع الفرح والفخر والاعتزاز وهي تقف أمام قبره في مقبرة الشهداء .

 

وجهتي الثالثة كانت المقبرة نفسها التي يرقد فيها ذلك البطل الشهيد، تبعد المقبرة بضع خطوات عن محتشد بعلاش، هو أحد المعتقلات التي أنشأها جيش الاحتلال في منطقة الونشريس لعزل أهالي القرى عن الثوار ومنع وصول معوناتهم إليهم، على بعد بضع كيلومترات من المكان يوجد معتقل أخر هو أرهب وأفضع وأبشع من الأول، مكتب التحقيقات الثاني بمدينة بوقايد، هذا المكان الذي شهد مقتل العديد من الجزائريين جراء أبشع أنواع التعذيب التي مورست عليهم، يروي لي جدي لأمي (أحمد بن محمد) كيف أمضى أخر سنتين من عمر الاحتلال الفرنسي في مكتب التحقيقات الثاني، وبكل التفاصيل الدقيقة يسترجع من ذاكرته القوية تلك الأيام القاسية التي عاشها في ذلك المعتقل، يقول جدي أن الثورة الجزائرية ما كانت أبدا لتنجح لولا احتضان الأهالي والشعب لها، وهي التهمة نفسها التي اعتقل لأجلها، دعم وتوفير الطعام للمتمردين، يقول جدي أنه بمجرد إدخاله المعتقل تم تجريده من كل ملابسه وتم ربط كل أطرافه بعصا ثم انهالوا عليه ضربا، يواصل جدي حديثه قائلا أن الضرب كان أهون العذاب فقد تفنن العدو وزبانيته في تعذيبنا ولعل أكثر أسلوب كان يرهبني هو استعمال مولدات الكهرباء، فبعد أن تبلل أجسادنا يتم وصل أسلاك الكهرباء بجميع النقاط الحساسة بالجسم وتبدأ رحلة عذاب لا يطاق، يصمت جدي برهة ويركز بصره في جبال الونشريس والدموع تتلألأ في عينيه ثم يتنهد تنهيدة عميقة تلخص كل معاني اللا إنسانية التي عايشها في المعتقل، ويقول لو تعلم يا ولدي أني كنت أدعو الله من كل قلبي أن يقبض روحي فقط لكي تنتهي رحلة العذاب الرهيبة، يواصل جدي حديثه أنه شهد مقتل العديد من الرجال والنساء من جراء التعذيب بالكهرباء والكي بالنار والإغراق في براميل الماء، يسترجع جدي من ذاكرته موقفا رواه لي في العديد من المرات أنه في لحظة يأس منه وثورة أثناء استعمال الكهرباء في تعذيبه راح يشتم فرنسا وكلابها ويتحداهم أن يطلقوا عليه وابلا من رصاص إن كانوا حقا رجالا، لكن الضابط يومها قال له أن ثمن الرصاص أغلى بكثير من ثمنك، هو رد يلخص تاريخ فرنسا الاستعماري .

 

شاء الله تعالى أن يطيل في عمر جدي ليبلغ التسعين سنة ليكون شاهدا وشهيدا على حقبة من تاريخ الجزائر، يقول جدي أنا لست ابن الثورة كما يصف الكثيرون أنفسهم، بل الثورة ابنتي فقد ولدت في الفاتح من نوفمبر 1954 وأنا ولدتُ قبلها في الفاتح من نوفمبر 1922، في هذا التاريخ تحتفل الجزائر هذه السنة أمام العالم بذكرى 58 لثورتها المجيدة، وفي التاريخ ذاته يحتفل جدي في صمت بتسعين سنة من عمره طغى عليها البؤس والحرمان ووطن جاحد وناكر للجميل.

 

كانت هذه شهادة جدي لأمي (أحمد بن محمد) الذي ألقبه دائما بالشهيد الحي، أما جدي لأبي (ساعد بن أحمد) فلن أحدثكم اليوم عنه، ولكن تذكروا جيدا تاريخ 15 ماي 1957 لأنه يوم شهد أمرا عظيما بالونشريس وهو اليوم نفسه الذي استشهد فيه جدي.

حملت حقائبي وأغراضي وعدت إلى مدينة تيزي وزو، وجهتي هذه المرة كانت متحف ومقبرة الشهداء بمنطقة مدوحة، الهدف كان نفسه البحث عن الشهداء، رأيت في المتحف بقايا طائرة حربية فرنسية أسقطها المجاهدون، ورأيت الكثير من صور الشهداء وأغراضهم والعديد من الوثائق والمستندات، وأنا أتجول بين أضرحة الشهداء أقرأ الأسماء على شواهد القبور، وأتأمل في تواريخ ميلادهم واستشهادهم وبعملية حسابية بسيطة أحسب لكل واحد منهم السنوات التي عاشها في الدنيا، ولكنني فجأة رأيت قبورا تختلف عن غيرها، لا تحمل أسماء بل أرقاما كتب أسفلها كلمتين فقط (شهيد مجهول) أوقفتني هذه العبارة عند قبور أصحابها كثيرا وشعرت حينها بنوع من الحزن الممزوج بالحيرة والأسى، لخصت تلك الكلمتين البحث الذي أجريه منذ سنوات، اجتاحتني رغبة ملحة في البكاء، وتمنيت السفر عبر الزمن والعودة إلى أيام جهاد هؤلاء والحديث إليهم والتعرف عليهم، أكيد لا يمكنني فعل ذلك، وأكيد أن لا أحد منا يعرفهم، وأكيد أنهم أحياء عند ربهم يرزقون .. وللحديث بقية..

 

صفحة الفايسبوك

التسجيل في الموقع

  • صلاح
  • kadchahed

فيــــــــــــديو : تحية لقراء مجلة حنين