ذكريات طفولتي النباتية

تذكّرني حقول أزهار شقائق النّعمان التي تزهر كلّ ربيع بالمنطقة التي ولدت فيها وعشت فيها طفولتي ومراهقتي. تذكّرني ببيتنا القبائليّ الصغير المحاط بالحقول من كلّ الجهات، كأنّه عش صغير وسط طبيعة خلابة. كنا نعيش في تناغم  معها، ننتظر  تفتّح الأزهار كلّ ربيع. وأذكر أنّ جدتي  ليلة  دخول موسم الربيع، تسهر اللّيل وتعدّ المسمن والمطلوع، ثمّ تحضّر الحنة  وتلّح أن لا ننام حتى نضعها في أيدينا، نستقبل بها الربيع. كنت الوحيدة التي تقاوم النوم كما ترغب جدتي، فأجلس على الكرسيّ أتأملها وهي تعدّ المأكولات التي نستقبل بها الربيع، وكانت تحفّزني أن أبقى معها أطول، بأن تضع لي الحنة قبل خالاتي وتلّح أن لا أفتح يدي كي لا  يفسد الهواء مفعول الحنّة، لأنّ حسب روايتها الهواء يغار من الحنّة. أقاوم  فضولي لرؤية لون الحنّة فترة وجيزة، لكنّي أستغفل جدتي فأفتح يدّي خلسة، وغالبا ما تصرخ في وجهي وتأمرني أن لا أفتحها وإلا حرمتني من  شرف حمل  مشبك  المطلوع والمسمن في الصباح الباكر، فكنت  أبكي وأقول: لا أنا من يحمله..... ويمضي اللّيل إلى أن يوقظني صوت جدتي المجلجل، وهي تفتح باب الغرفة، توقظني أنا وخالاتي: انهضن اليوم أوّل أيام الربيع، لا نوم  اليوم، من يستقبل الربيع إذن.؟ كنت أقفز  من فراشي وأعانق جدتي، فتنزع الحنّة من يدّي. وتقول لي بالأمازيغية: ثحرشاض- شاطرة-  لم  تنزعيها في اللّيل.

 كانت جدّتي تحسن قراءة أسرار شخصيتي من خلال لون الحنّة. إن كان داكنا فأنا طيّبة أحب النّاس وإن كان فاترا فإنّني غيورة على النّاس، وإن كان أحمرا فأنا لا أبالي بالنّاس. هكذا تعلّمت أن لا أحسد ولا أكيد للنّاس منذ صغري  كي لا تفضحني الحنّة وتغضب منّي جدتي. وكانت جدتي تجازيني على  نبل خلقي إن بدا اللّون الداكن في الحنّة بأن تمنحني سلة المطلوع والمسمن أحملها إلى الحقول لاستقبال الربيع.  فأخرج مع خالاتي  إلى الحقول المحيطة  بمنزلنا  وتخرج إلينا بنات وأبناء الجيران، نتبادل  المأكولات وسط الحقول، وأنا أفتخر بين قريناتي بالحنّة  وبطبق المسمن والمطلوع، وكنت أمرّ على كلّ يدّ  أستقصي  ألوانها  لأعرف  مكنونات  قلوب أصحابها. فكانت صاحبات اللّون الفاتر يتسترن عن الأعين كي لا ينكشف  المستور. لكنّي ألّح أن يبسطن أيديهن، ويحصل أن أطاردهنّ  بين الحقول  لدقائق. فالأمر مهم بالنّسبة لي : موسم الربيع  مناسبة لكشف ما توارى عنّي من  شخصيات صديقاتي. ونظلّ  في الحقول نصف النّهار نقطف باقات متنوعة، من الزنابق والشقائق وبعض النباتات الجميلة، ونتراهن على من تصنع الباقة الأكبر وبسرعة، نلهو تارة ونغني أغاني بالأمازيغية تارة أخرى، ويتمّ الشطر الأوّل من النّهار وقد  احتفينا بقدوم الضيف غناءا وأكلا. وفي شطره الثاني  نذهب حشود أطفال إلى كلّ بيوت الجيران، ندخلها بباقات الربيع ونسلّم، وتقدّم لنا  مأكولات خفيفة، غالبا ما تكون حلويات  قبائلية تقليدية، في جو بهيج تختلط فيه أصوات  الغناء بألوان الحنّة التي  تتفاخر بها أيدينا أمام الأمهات والجدات  وذوق العسل  للمسمن  الذي نزدرده  بلذّة جديدة  كأنّنا نتذوقه لأوّل مرة. .... ونظلّ هكذا ندور على كلّ المنازل في حبور، إلى أن نستوفيها كلّها.

   وفي المساء نعود إلى  منازلنا  منتشين، وكنت أنحرف في كلّ  خطوة  عن الركب لأدخل إلى الحقول، أقطف المزيد من الأزهار.... وغالبا ما أتخلّف عن خالاتي، فتخرج أمّي تناديني  وقد أعتصم  بشجرة كي لا تراني، لأنّ موعد مشط شعري قد حان، وأسمع والدتي تصرخ: " تعال  لأمشط  شعرك فأنت طوال اليوم  في الحقل وأراه مستشزّرا إلى الأعلى كالستوت. وأظلّ مختبئة وقد أستدرج أمّي أن تطاردني داخل حقول الأزهار، وأنا أنّط  كالقطة من مكان إلى آخر، وصراخ ووعيد أمّي لا ينقطع. وقد أنهك في الأخير لتقبض عليّ وتنهال  عليّ ضربا، وفمّي يستنجد بجدتي ويدي  تقطف المزيد من الأزهار.....  هكذا عشت طفولتي النباتية  بفرحها وترحها بين  أحضان الطبيعة الخلابة.                        

صفحة الفايسبوك

التسجيل في الموقع

  • صلاح
  • kadchahed

فيــــــــــــديو : تحية لقراء مجلة حنين