محمد بن مسلم بن شهاب الأزهري
أحفظ الناس للقرآن والفرائض والسنن في زمانه هو الذي وهبه الله القدرة على الحفظ وسرعة البديهة والحكمة، وأعجب ما يروى عنه أنذه حفظ القرآن الكريم في مدة ثمانية وثمانين يوما ، أما الفرائض والسنن فقد حفظها قبل ان يبلغ الرابعة عشرة من عمره، ألبسه العلم الرفعة العالية بين الناس حتى جعله أوثق الفقهاء بينهم فكان الناس يستفتونه في أمور الدين وبينن ظهرانيهم من بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تلقوا دينهم على يد المصطفى كما أنزله الله عزّ وجل انظر تلك المكانة التي يستحقها إلا رجل مثل محمد بن مسلم بن شهاب الأزهري الذي تلقى العلم على يد كبار علماء عصره، الزهاد التقاة الحافظون لأوامر ونواهي الله فكان أستاذه سعيد ابن المسيب الذي رفض أن يزوج ابنته لولي العهد الوليد عبد الملك بن مروان وفضل تزوجها لعبد زاهد فقير كثير بن أبي وداعة على ثلاثة دراهم فسيأتي في الأيام القليلة الحديث عن هذا الرجل الذي أخذه وحمله هم الدنيا وزهدها للأغنياء بالأخوة.
مناقب علماء وأئمة عصره:
سنورد شهادتين لأكبر أئمة عصره: الأولى للإمام مالك ابن أيسر، والثانية للإمام الليث بن سعد، فإنّ الشهادتين ما هما إلاّ حجة على محمد بن مسلم بن شهاب الزهري لرفع قدره وشأنه فسينقل الكلام حرفيا لا زيادة ولا نقصان وبأمانة.
وإنّ القلم ليتكلم استحياء أن يكتب عن هذا الرجل العظيم، قال الإمام مالك فيه: "إنّ الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، والله لقد أدركت هاهنا –وأشار الإمام إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكمل كلامه الإمام مالك فيقول أنا سا كلهم يقول قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أخذ عن أحد منهم حرفا، لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن ولقد قدّم علينا محمد بن شهاب الزهري وهو شاب فازدحمنا على بابه لأنه كان من أهل الشأن (يعني علمه بالحديث كما أنّه أول من دوّن العلم.
كما قال فيه الإمام الليث بن سعيد: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علما منه، فلو سمعت ابن شهاب في الترغيب لقلت: لا يحسن إلاّ هذا، وإن حدث عن الأنبياء واهل الكتاب قلت لا يحسن إلاّ هذا، وإن تحدث عن الأعراب والأنساب لقلت: لايحسن إلاّ هذا وإن حدث عن القرآن الكريم والسنة كان حديثه جامعا.
قصته مع عبد الملك بن مروان:
لما ذهب ابن شهاب إلى دمشق في سنة أصاب فيها قحطا تلك المدينة، توجه للخليفة ملتمسا منه شيئا من بيت مال المسلمين ليسدّ نفقات عائلته، فقبل أن يكون له ذلك دخل مسجدا ليؤدي صلاته، ليجلس بعد ذلك إلى حلقة ذكر ومذاكرة، إذ برجل يدخل، يوسع له الناس الطريق، فيجلس في الحلقة ويقول: إنّ أمير المؤمنين جاءه اليوم كتاب من هشام بن اسماعيل عامله على المدينة ما جاءه كتاب مثله منذ استخلفه الله، فقالوا له: ما هو قال إنّ الكتاب يذكر أنّ ابنا لمصعب ابن عمير من إحدى إمائه مات، وأرادت أمه أن تأخذ ميراثا منه فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنّه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثا في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنه نسيه ولم يحفظه الآن. هنا قال ابن شهاب: أنا أحفظ ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشأن أمهات الأولاد اللاتي يمتن عن أولادهن فقال له أحد الحاضرين: هل تذهب معي إلى الخليفة وتخبره بما تحفظ فلما امتثل بين يدي الخليفة في قصره، سأله من تكون؟ وما مسألتك؟ أجاب ابن شهاب أنه يحفظ الحديثثم قال: سمعت سعيد بن المسيب يذكر أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأن تقوم أمهات الأولاد في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، وقد توفي رجل من قريش وكان له ابن من إحدى إمائه وكان عمر معجبا بهذا الغلام لذكائه واستقامته وذات يوم مرّ الغلام على عمر بن الخطاب فسأله ما فعلت يا ابن أخي بأمك وهذا بعد وفاة أبيه، قال الغلام: خيرا يا أمير المؤمنين خيّروني بين الميراث فغضب عمر ثم صعد المنبر وخطب في الناس قائلا: إني كنت قد أمرت في أمهات الأولاد بأمر كلكم تعلمونه، ثم حدث غير ذلك، فأيما امرئ كانت عنده أم ولد فهي ملكه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها. وهنا أحسّ الخليفة براحة نفسية.
وهكذا فرجت كربة الخليفة بأن وجد الفتوى في الإسلام وعربة ابن شهاب إذ أعطى له نصيبا من المال.
كتابته للعلم: من هاته الحادثة مع الخليفة عبد الملك بن مروان أكسبه رفعة وحبا ومكانة بين خلفاء بني أمية حتى أنّ هشام بن عبد الملك بن مروان أخذه معلما لأولاده وكان يرجع إليه في كل أمور الدين، وكان هشام شديد الإعجاب بفطنته إذ ذات يوم طلب إليه أن يملي على أولاده أربعمائة حديث في مختلف العبادات والمعاملات حتى بلغ بذلك كتابا وبعد فترة من الزمن قال هشام للزهري إنّ الكتاب قد ضاع وأنّ أولاده بحاجة إليه، فأملى الزهري للمرة الثانية هذه الأحاديث فلما قارن هشام النسخة الأولى والثانية وجدهما طبق الأصل، وما كان هذا الفعل من ابن هشام إلا اختبارا للزهري.
من وصاياه للشباب كان يقول:
- إنّما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
- خذوا العلم رفيقا حتى يستقر في القلب ويرسب في الوجدان.
- العلم الذي يؤخذ خطفا لا يلبث أن يذهب خطفا، أما العلم الذي يؤخذ بالتأني فإنه يلتصق بالذاكرة وينبت فيها كما ينبت الزرع الطيب في الأرض الطيبة.
- احفظوا كرامة العلم، وذلك بأن تكونوا صادقين في تلقيه وصادقين في نشره.
- الكذب آفة العلم ومن جرب الناس عليه كذبة واحدة لا يثقون في شيء مما يقوله بعد ذلك أبدا.
- إياكم وغلول الكتب، قالوا له: وما غلولها" من حبس علما يعلمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"
- هو العالم الجليل الفقيه الذي نفوق في الفقه عن بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، توفي سنة أربع وعشرين ومائة في اليوم السابع من رمضان ، لما بلغ الثانية والسبعين من عمره دفن بشعب زيدا من فلسطين على قارعة الطريق لكي يترحم عليه كل من يمر بقبره، كما أوصى.
- وذات يوم مرّ الأوزاعي على قبره وأنشد فيه شعرا قائلا:
يا قبر كم فيك من علم ومن حكم وكم جمعت روايات وأحكاما