عطاء بن أبي رباح

كان اسما على مسمى عطاء في العلم فلم يكن يبخل على من أتاه سائلا أو متعلما أو ناقدا، فبيّن ذلك وذاك يروح ويعود هو من حصل العلم منذ طفولته، رغم عائقه الجسمي كان يعاني من صعوبة كبيرة في الذهاب إلى مجالس العلم والحلقات ومتابعة أو مصاحبة العلماء، فقد أصيب بشلل الأطفال وزد على ذلك فقد إحدى عينيه في الصغر.

" وهو الذي جعلكم خلائق الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما اتاكم إنّ ربكم سريع العقاب وإنّه لغفور رحيم" سورة  الأنعام 165

فعلا ابتلي العابد الفقيه المتعبد لله ليلا ونهارا  سكنا وحركة، جهرا وسرا، في اهم شيء في صحته وعافيته فهو من الرجال الذين صدقوا الله على ما عاهدوه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا وغيروا في أمرهم شيئا، فلا شلله ولا فقدانه للبصر أقعده حبيسا عن التعلم والدراسة.

عبدا حبشيا أسودا لا يؤبه له، لكن بسرعة فائقة تمكن من بناء نفسه بنفسه، فأصبح ذلك العبد الحبشي فقيها عالما وإمام يجالسه الولاة والخلفاء والعلماء، فالعلم رفع مكانته بين الناس وكسب قلوبهم، فلا المال ولا الجمال ولا تنميق الكلام" وإذ رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون" سورة المنافقون 4

لم يكن عطاء بن أبي رباح متخذا من علمه وعطائه مكسبا أو رزقا يرتزق منه فجعله صدقة جارية  مبتغيا به وجه الله عزّ وجلّ إذ لم يكن يذهب لا للقصور ولا للملوك وكان يعيش على الخبز والملح الذي يكلفه بضع دراهم، أما منزله فهو المسجد يوزع وقته ليلا ونهارا بين العبادة و التعلم والتعليم فهو الذي خلف حلقة الفتيا التي كان عقدها ابن عباس رضي الله عنهما، وإذا كان الناس يذهبون لابن عباس يستفتونه، ماذا يقول لهم، أتستفتونني يا أهل مكة وفيكم ابن أبي رباح؟ رغم زهده في الدنيا وقلة ماله ووجاهته، لكن كما سلف الذكر كان رفيع الشأن بين الناس حتى أكسبه المهابة لدى الخلفاء ومن لطائف ذلك قصته مع    سليمان بن عبد الملك لما ذهب لأداء  الحج وكان معه ابناه وأراد أن يعرف المناسك ذهب إلى عطاء بن أبي رباح في المسجد وكان هذا  الفقيه الجليل حينها يصلي لما انتهى من الصلاة  جلس إلى أمير المؤمنين وابنيه وشرعوا يستفتونه في حاجتهم  وهو يجيب حتى انتهوا من الأسئلة هموا بالانصراف فقال سليمان لابنيه: يا بني لا تنيا  في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

عشرون سنة معتكفا في المسجد اعطاها للعلم والتعلم لم يشتك يوما لا نصبا ولا لغوب اسبغ الله عليه السكينة والحلم والتواضع، فلم يلطخ لسانه  بما لا يرضي الله، فكان ترجمان للحق والخير هو الذي كان يوصي بحضور مجالس العلم، لانّ الملائكة تحفها بأجنحتها وتنزل رحمة الله عليها، ويتجلى الله بالصفح والمغفرة.

قال يوما في حلقة من حلقاته العلمية في مسجد الحرامك من جلس مجلس ذكر كفّر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل فساله أحد الحاضرين: ماذا تعني بمجلس الذكر: فقال: المجلس الذي تعرف فيه الحلال والحرام: كيف تصلي؟ وكيف تصوم وكيف تتزوج وتطلق وكيف تبيع وتشتري، هو الذي كان يرى في العلم أفضل واعلى درجات العبادات التي يتقرب بها العبد من الله عزّوجل وفيه يسير على طريق الأنبياء والصالحين.

وكان حسن خلقه الاستماع  والانصات لمحدثه فيلزم الصمت، وفي ذلك يقول: إنّ الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كاني لم أكن سمعته وقد سمعته قبل أن يولد فأريه أني لا أحسن منه شيئا.

من مواعظه:

أتاه  ذات مرة شاب صالح اسمه محمد بن سوقه، وطلب إليه أن يعظه وينصحه فقال له عطاء: يا ابن أخي إنّ من كان قبلكم   كانوا يكرهون فضول الكلام ما عدا أن يقرأ كتاب الله ، او يأمر بمعروف، او ينهى عن منكر أو ينطق العبد بحاجته في معيشته التي لابد منها. اتنكرون " إن عليكم لحافظين كراما كاتبين" "وعن اليمين وعن الشمال قعيد  ما يلفظ من قول إلاّ عليه رقيب" فيكمل كلامه، أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره، فرأى لأكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟"

أما عن قيامه الليل والاستغفار بالأسحار كان يقول: "لأن أرى في بيتي شيطانا خيرا من أن أرى وسادة لأنها تدعو إلى النوم فاستمر على الحال حتى تقدم به العمر، إلى أن تجاوز الثمانين  قائما يصلي ليلا ويقرأ مائتي آية من سورة البقرة، وكان يقول: " ما قال العبد "يارب" ثلاث مرات إلاّ نظر الله  له، ومن نظر الله له لم يعذبه يوم القيامة كان عطاء بديه الإجابة عن أي مسألة، فذات مرة قيل له: إنّ ها هنا قوما يقولون إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقال عطاء بن أبي رباح على الفور: " والذين اهتدوا وزادهم هدى" فقالوا له: فما هذا الهدي الذي زادهم ويزعمون أنّ الصلاة والزكاة ليستا من دين الله.

فقال عطاء بن أبي رباح: يقول الله تعالى: " وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة" فجعل ذلك دينا.

سئل عن معنى قوله تعالى: " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"

فقال: " لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله تعالى التي افترضها عليهم أن يؤدوها في اوقاتها وأوئلها,

عطاء بن أبي رباح هو من الذين يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم مما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "  ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة، لايهولهم الحزن، ولايفزعون  حين يفزع الناس: رجل تعلم القرآن فأم به قوما يطلب به وجه الله عزّ وجل وما عنده وعبد مملوك لم يمنعه رق الدنيا عن طاعة ربه عز وجلّ" وهذا الحديث بإسناد عطاء عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير وزيد بن خالد الجهني وآخرين من الصحابة.

عاش هذا التابعي الجليل ثمانية وثمانين عاما علما إماما وفقيها أفتى للناس نصف قرن، وحج سبعين حجة، وكان ينادي في كل موسم حج من كانت له مسألة فليذهب إلى عطاء بن أبي رباح، توفي في السنة الرابعة عشرة بعد المائة للهجرة.

صفحة الفايسبوك

التسجيل في الموقع

  • صلاح
  • kadchahed

فيــــــــــــديو : تحية لقراء مجلة حنين