الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد بن عبدالله، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبعد:

فلما كانت النصرانية أكثر الأديان انتشارًا، وأكثرها نفوذًا وسلطانًا، وأكثرها حرصًا على التبشير بباطلها والنيل من ديننا ومعتقداتنا؛ كان من الطبيعي أن يتوجه العلماء المسلمون للردِّ على النصارى وبيان باطلهم. والقرن الهجري الأخير أهمُّ القرون؛ لأنه حوى خلاصة الحوار والجدال بين المسلمين والنصارى؛ لذا خصصته بدراستي، وقد جعلت هذه الدراسة على مقدمة وأبواب ثلاثة وخاتمة.

في المقدمة تحدثت عن أهمية البحث ودوافعي إلى اختياره ومنهجي فيه، ثم موضوعاته. في الباب الأول عرضت لجهود علماء القرون الثلاثة عشر السابقة في فصلين؛ عرَّفت في أولهما بالعلماء الذين ردُّوا على النصارى والموضوعات التي طرقوها، وبيَّنت ملامح المنهج الذي ساروا عليه في الرد على النصارى. وفي الفصل الثاني بيَّنت ما انتهى إليه علماؤنا المسلمون في موضوعات الجدل الرئيسة بين المسلمين والنصارى. وفي الباب الثاني تحدَّثت عن دوافع العلماء المسلمين التي دفعتهم في هذا القرن للردِّ على النصارى، وأهمها وجود الاستعمار والتبشير، وتحدثت عن اتجاهات هذه الرودود وتوزعها إلى كتب ومناظرات. وفي الباب الثالث أبرزت جهود العلماء المسلمين في الرد على النصارى، التي ثمثَّلت في ستة موضوعات رئيسة (ألوهية المسيح والتثليث - الصلب والفداء - نقد التوراة - نقد العهد الجديد - نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - شبهات النصارى حول الإسلام)، وخصصت لكل منها فصلًا مستقلًّا. وأتبعت ذلك بذكر أهم نتائج البحث، ثم بالفهارس العلمية، ثم قائمة المصادر والمراجع. وقد خلصت من دراستي إلى نتائج مهمة، أهمها:

• المسيحية بعقائدها وكتبها دينٌ نحَلَه بولس ومن بعده عن الوثنيات القديمة.

• النصرانية الحقة دين الله الذي أنزله على نبيِّه عيسى عليه السلام، وهو دين التوحيد الخالص الذي نؤمن به كما نؤمن بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله عز وجل، وملؤهما الهدى والنور، وهذا الهدي لم تندرس آثاره إلى اليوم من الكتب المقدسة عند النصارى.

• الأسفار الني يقدِّسها النصارى اليوم كتبٌ لا يُعلم على وجه التحديد مَن كاتبُها، وهي كتب سيرة وتاريخ لم يزعم كتابها المجهولون أنهم يقدِّمون من خلالها كلمة الله، وإن التأمل في هذه الكتب يكشف زيف هذه الدعوى، ويثبت بشرية هذه الكتب وخلوها عن الوحي وهدي النبوات.

• هذه الأسفار كتبها البشر، ثم منحوها في مجامعهم صفة القدسية والعلوية.

• صلب المسيح أمر زعم النصارى وقوعه، وقد أثبت علماؤنا وبعشرات النصوص المستمدة من كتب النصارى بطلانَ هذه القصة ونجاة المسيح من الصلب المزعوم.

• عقيدة الفداء والخلاص وهمٌ آخر تعلَّق به النصارى من غير ما دليل صح عن المسيح عليه السلام، وقد أثبت علماؤنا بطلان هذا المعتقد بالأدلة الكتابية والعقلية.

• شبهات النصارى عن ديننا تنبع من الكذب الفاضح، أو التلبيس الخادع، أو الجهل المطبق بأصول هذا الدين.

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين محمد بن عبدالله، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وبعد:

فقد سطع فجر الإسلام على الدنيا قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، فآذن بميلاد الدِّين الأوحد الذي أتمَّه الله ورضيه للبشرية دينًا إلى قيام الساعة.

ومن اللحظات الأولى لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدأت جولةٌ جديدة من جولات الصراع الأبدي بين الحق والباطل، بَيْدَ أن هذه الجولة كانت يين مشركي مكة ودعوة الإسلام الناشئة.

ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد مذاهبَ متعددة للشرك والوثنية، فقام بدعوة هؤلاء جميعًا رجاء هدايتهم إلى دين الله القويم، وبغية تبليغ دعوة الله وإقامة حُجَّتِه على خلقه، وهكذا كان، فقد جادل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتي هي أحسن مذاهب الوثنية المختلفة، ومن هؤلاء أهل الكتاب من يهود ونصارى.

ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فقام ورَثتُه من علماء أمَّتِه بحمل الأمانة وتبلبغ الرسالة ونشر الدعوة، واتجهوا بدعوتهم أيضًا إلى اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الشرك، يحدوهم في ذلك كلِّه قولُ الله عز وجل: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125]، وقد أمرهم الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب ودعوتهم ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقوله: ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

وهكذا تواصل الجدل بالتي هي أحسن بين المسلمين والنصارى طوالَ قرون عديدة من تاريخ الإسلام، وما يزال، وسيبقى ما بقي الليل والنهار.

ومع دخول الجدال قرنَه الرابع عشر وصل إلى منعطف مهم، تأتي أهميته وتبرز عند النظر إلى أمور، منها وقوع العالم الإسلامي في براثن الاستعمار النصراني الذي استعان بجيوش المبشِّرين والمستشرقين، فكان هولاء معاول هدم أريد منها إبعاد المؤمنين عن الإسلام، وتجهيلهم بذا الدين، ثم إدخالهم في النصرانية.

وقام المستشرقون برصد حركة الأمة الإسلامية؛ للوقوف على مكان الضعف فيها واستغلالها، والوقوف على مصادر القوة وتجفيفها وتحجيمها، ويحرس زحفهم الهادئ جيوش المستعمرين التي كان في طليعتها رهبان الكنيسة يبشِّرون بما يسمونه رسالة المسيح.

ومما يعطي هذا القرن أهمية خاصة أيضًا انتشارُ الطباعة؛ مما سهل التواصل بين الأمم، وكذا وسائل الاعلام التي أحالت الأرض إلى قرية صغيرة يسهل فيها تناقل الأخبار وتلاقي الأعداء، ويجلو فيها صراع الحضارات والأديان.

وفي هذا الخضم المتلاطم قام أصحاب الردود الإسلامية من جديد يذودون عن دين الإسلام شبهات المبطلين، ويبينون زيف المبطلين من أتباع كل دين، ومن هولاء النصارى من أهل الكتاب الذين يبلغون ثلث سكان المعمورة، ويتحكمون في ثرواتها، ويبسطون سلطانهم على بلاد المسلمين، فكان لا بد من دعوتهم، والعمل على هدايتهم، وكشف عوار دينهم، ورد شبهاتهم، فكان فصل جديد من فصول هذا الصراع.

وقد رأيت أن أتقدم - في أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه في قسم العقيدة - دراسة جهود العلماء المسلمين المباركة في هذا القرن الهجري في الرد على النصارى، وجعلتها بعنوان: "جهود علماء المسلمين في الرد على النصارى في القرن الرابع عشر الهحري (عرض ودراسة)"، ومقصودي عرض ودراسة جهود أبرز من تصدى للرد على النصارى من أهل العلم في القرن الرابع عشر الهجري، سواء كان ذلك كتابة أو مناظرة، وكل من علم مسألة فهو بها عالم.

والذي دفعني لاختيار هذا الوضوع أمور، منها:

١- إيماني بأهمية الجدل بين الأديان وخاصة أهل الكتاب في وقت انحسر فيه صراع القوميات والمذاهب الفكرية، وعاد الصراع بقوة من جديد إلى صراع بين الأديان، ومثل هذا لا يخفى على من تأمل الحروب التي تجري هنا وهناك، وتمحور الصراع حول أكبر دينين على وجه الأرض، وهما الإسلام والنصرانية، فيما تظافر اليهود والنصارى، وتهادن هولاء مع أهل سائر الأديان، بل اتحدوا معهم وتعاونوا وتداعوا على ملة التوحيد والإسلام.

٢- أن أهم مجالات الصراع هو الصراع الديني؛ إذ هو الأساس الذي عنه يصدر الصراع الاقتصادي والعسكري والسياسي، فهو المحرك لكل ذاك.

٣- أن جهود علماء هذا القرن تمثِّل أهمَّ فصل من فصول الجدال بين المسلمين والنصارى؛ إذ كثرت هذه الجهود المباركة وتنوعت موضوعاتها، ونضجت بتتابع الجهود طوال ثلاثة عشر قرنًا، فكانت هذه الحلقة المباركة التي وعت جهود السابقين، وأضافت إليهم ما أثرى موضوعات الجدل الإسلامي النصراني. وقد جهدت في رسالتي هذه في جمع كلِّ ما تناهى إلى مسامعي من كتب تتحدث في هذا الموضوع، وفي سبيل ذلك قمت برحلتين علميتين إلى مصر والأردن، جمعت خلالها ما قدرت عليه من كتب ومخطوطات تتعلق بهذا الموضوع.

لكن ذلك جعلني أمام عدد هائل من المصادر والمراجع والجهود العظيمة التي تستحق الدراسة والعرض، فاستعنت بالله، فأعان إلى إخراج هذه الرسالة التي أرجو أن تسد فراغًا في المكتبة الإسلامية، وأن تكون عدة وعتادًا لكل مسلم توجَّه لدعوة النصارى إلى الإسلام، وأراد أن يبيِّن فساد النصرانية وبطلان كتبها ومعتقداتها.

وقد درجت في هذا البحث على نقد النصرانية والتوراة والإنجيل، ومقصودي من ذلك كلِّه ليس ما أنزله الله من هدى ونور، وإنما ما غيَّره البشر وابتدعوه، ثم أضافوه إلى تلكم التسميات القديمة.

وعندما أضيف قولًا إلى التوراة أو الإنجيل، فإنما أضيفه إلى ما يسمى ذلك عند اليهود والنصارى، وعندما أضيف نصًّا إلى الله - في غير المنقولات الإسلامية - أو إلى المسيح أو أحد حوارييه، فلا يعني ذلك يقيني بصحة هذا القول ونسبته، بل هو نوع من التنزل مع النصارى والتسليم لهم من هذا الباب فقط؛ رجاء الوصول إلى الحقيقة التي نسعى لإثباتها.

ومثله ينطبق على ما نورده من شواهد توراتية أو إنجيلية مختلفة نوردها ردًّا على بعض ما يقوله النصارى، مع أنه قد يكون ذلك النص مما ثبت لدينا بطلانه، لكنا نرد على الخصم بما يعتقده، ونبطل قوله بشيء من باطله.

وقد أسندت جميع نصوصي التوراتية والإنجيلية التي ساقها أصحاب الردود الإسلامية أو استشهدت بها إلى أماكن وجودها في الكتاب المقدس، معتمدًا في ذلك على النسخة التي بين يدي والمطبوعة بدار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، وقد أثبت النصوص التي نقلها أصحاب الردود الإسلامية عن الكتاب المقدس بنصها المثبت عندهم، ثم أتبعت كل نص بتوثيقه، فما وافق النسخة التي بين يدي أو قاربها - أي كان مرد عدم الاتفاق بين الألفاظ إلى الترجمة وعبارة المترجم - ما كان على هذا النحو أوثقه بقولي مثلًا: (يوحنا 4 /20)، ومقصودي أن العبارة أو مرادفها موجود في إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع في العدد 20 حسب ترقيم الكتاب المقدس.

فإن كان في النص بعض تخالف مع ما بين يدي مع بقاء موضع الدلالة والاستشهاد، قلت: (انظر يوحنا ٤/٢٠)، ومثله إن اكتفيت عن النقل بذكر فكرة النص، فإن اختفى موضع الدلالة والاستشهاد في النص الذي أنقله عن العلماء المسلمين في نسختي قلت: (قارن يوحنا 4 /20).

كما نقلت عشرات الاقتباسات التي نسبها أصحاب الردود الإسلامية لقسس نصارى أو غيرهم من مفكري الغرب، لكن الأسماء التي نقلوا عنها بقيت مجهولة، لا نعلم عن بعضها سوى الأسماء، وقد نقلت عن العلماء المسلمين ما أثبتوا في تعريف هذه الشخصيات كذكر رتبته الكنسية أو اسم كتابه أو لقبه العلمي.... ولعل في ذلك ما يلقي بالضوء على أهمية هذه المنقولات، وينبه إلى أهمية قائليها.

كما ذكرت في هامش التوثيق أسماء الجهود العلمية التي أفدت منها، وذكرتها مرتبة حسب الأقدم، إلا أن أجد ما يدعوني إلى نص متأخر منها لسبب نقل عبارته أو زيادة في وضوح الفكرة عنده... ولم أهتم بترتيب المراجع التي تعود لعلماء القرن الرابع عشر؛ لصعوبة تمييز السابق فيها من اللاحق؛ لتقارب الزمن بينها. وقد جعلت هذه الدراسة على مقدمة وأبواب ثلاثة وخاتمة. في المقدمة تحدثت عن أهمية البحث ودوافعي إلى اختياره ومنهجي فيه، ثم موضوعاته.

في الباب الأول عرضت لجهود علماء القرون الثلاثة عشر السابقة، وذلك في فصلين عرَّفت في أولهما بالعلماء المسلمين الذين ردوا على النصارى والموضوعات التي طرقوها، وبيَّنت ملامح المنهج الذي ساروا عليه في الرد على النصارى.

وفي الفصل الثاني بيَّنت ما انتهى إليه أصحاب الردود الإسلامية في موضوعات الجدل بين المسلمين والنصارى الرئيسة من إثبات لبشرية المسيح، وإبطال للتثليث ولصلب المسيح، وأبرزت نقدهم للتوراة والإنجيل، وما ذكروه في نبوة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.

وفي الباب الثاني تحدثت عن دوافع العلماء المسلمين التي دفعتهم في هذا القرنِ للرد على النصارى، وعن اتجاهات هذه الردود.

ففي أول فصول هذا الباب تحدثت عن الحركتين الاستعمارية والبشيرية؛ لما لهما من أثر في تنبيه العلماء السلمين إلى خطر النصارى، وضرورة الرد عليهم.

وفي الفصل الثاني تحدثت عن اتجاهات العلماء المسلمين في الرد على النصارى، حيث لجأ بعضهم إلى التأليف في هذا الفن، فيما لجأ آخرون إلى أسلوب المناظرة المباشرة مع النصارى.

وفي الباب الثالث أبرزت جهود العلماء المسلمين في الرد على النصارى، التي تمثلت في ستة موضوعات رئيسة، خصصت لكل منها فصلًا مستقلًّا.

وأول هذه الفصول كان موضوعه عقائد النصارى (ألوهية المسيح والتثليث).

وفي الفصل الثاني عرضت لما ذكره أصحاب الردود الإسلامية في إبطال صلب المسيح، ثم إبطالهم لعقيدة الفداء والخلاص.

وفي الفصل الثالث عرضت لجهود العلماء المسلمين في نقد التوراة، وإثبات ضياع توراة موسى، وأن التوراة الحالية محرَّفة، بشريَّةُ المَنشأِ والمضمون.

وفي الفصل الرابع عرضت لجهود العلماء المسلمين في نقد الأناجيل ورسائل العهد الجديد.

وفي الفصل الخامس عرضت لما ساقه أصحاب الردود الإسلامية في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم من أدلة كتابية؛ توراتية أو إنجيلية.

والفصل السادس كان موضوعه الشبهات التي أثارها النصارى حول الإسلام.