البشرى بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الهدف الثاني في رسالة عيسى عليه السلام، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه : (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بي، ورؤيا أمي)، وقد جاءت البشرى بلفظ "أحمد" بدلاً من "محمد" وكلاهما اسم للرسول صلى الله عليه وسلم، والمشهور هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ 

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) الصف  

ولكن لماذا يسجل القرآن التسمية "بأحمد" بدلاً من "محمد"؟! ... يرجع سر ذلك إلى بلاغة الكلمة القرآنية المعجزة، فمحمد وأحمد ومحمود كلها من الحمد، وتحمل هذه الأسماء في طياتها الثناء، ولفظ "محمد" ورد في أربع آيات من آيات القرآن الكريم فقط، مع أن كثيرًا من الأنبياء وردت أسماؤهم أكثر من ذلك بكثير، فموسى عليه السلام ورد اسمه؛ (136مرة) وهو أكثر الأنبياء ذكرًا في القرآن، لأنه نال شرف تكليم الله له في الدنيا، فكثرة عدد مرات ذكره عليه السلام تتناسب مع وصفه كليم الله، والقرآن الكريم نزل على محمد عليه السلام فلم يكثر من تكرار اسمه الصريح، فلم يكن ذكر الاسم لأجل الاسم، فكل القصص والأحداث التي تحدثت عن مسيرة دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الله قد سجلها القرآن، ويعرف من يقرؤها بأن مناداته بالرسول، وبالنبي، والضمائر والخطابات العائدة على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هو المقصود دون التصريح باسمه. 

واسم محمد صلى الله عليه وسلم، كما قلنا هو من "الحمد"، و"محمد" هو "محمود" ولكن بعد أن يوجد في الدنيا، ويعرف فيها، ويحمده الناس بعد معرفتهم به أنه يستحق الحمد وليس قبلها. 

وتدبر المواضع الأربع التي جاء فيها ذكر اسم محمد صلى الله عليه وسلم؛ 

: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144) آل عمران.  

: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) الأحزاب. 

: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) محمد. 

: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) الفتح. 

تجد فيها أن اسم "محمد" صلى الله عليه وسلم جاء بعد ذكر الخواتيم أو الإشارة إليها؛ 

فآية "آل عمران" تحدثت بأن خاتمة حياة محمد صلى الله عليه وسلم بالموت وإما بالقتل. 

وآية "الأحزاب" وصف فيها محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ليس أبا أحد من الرجال، وكان صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، وأنه خاتم النبيين. 

وفي آية "محمد" تحدثت عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما عرفوا من دينهم، وانتهى بهم طريق الإيمان بعد ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكان الإيمان به خاتمة لهم. 

وفي آية "الفتح" تحدثت عن حالهم في الشدة على الأعداء، والرحمة التي بينهم، كمثل من سبقهم على درب الإيمان في التوراة والإنجيل، فكانوا هم المتأخرين فيهم.  

وهكذا فإن تسمية الرسول صلى الله عليه وسلم بمحمد جاءت من "حَمْدٍ" قد عُرف بعد مجيء صاحبه، وإذا انتهى على هذه الصفة من "الحمد" فسيظل حمده مستمرًا ... واسمعه عليه الصلاة والسلام على وزن؛ مُبَجَّل، ومُعَظَّم، ومُوَقَّر، ......، دالا على كثرة الحامدين له، ولا يخفى على أحد من أهل العلم في الأرض أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أكثر إنسان يذكر يوميًا في الأرض، وأنه على رأس قائمة المعظمين في التاريخ، ويصلي ويسلم عليه مئات الملايين في صلواتهم الخمس، وفي مجالسهم، وعند ذكر اسمه، فلا أحد له من التعظيم، والتبجيل، والتوقير في الأرض ما للرسول صلى الله عليه وسلم ،.. فلما كان حمده بعد الوجود، واستمر وعظم بعد الانقطاع عن الدنيا، فحمده كان من بضع مئات الآلاف في حياته وقبل موته، إلى مئات الملايين بعد وفاته، يدرك المرء لِمَ لَمْ يتردد اسم محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرًا. 

أما تسمية عيسى عليه السلام لـ "محمد" صلى الله عليه وسلم في بشراه بـ"أحمد" فلأسباب عدة منها : 

أولاً: أن التبشير بمحمد كان من جميع من سبقه من الأنبياء، فهو مذكور في التوراة، ومذكور في الإنجيل، وآمن على هذه البشرى خلق كثير من أهل الكتاب .... ثم اختفت هذه النصوص بعد ذلك منها، أو من ترجماتها، لئلا تظل هذه النصوص حجة على من بقي منهم على مذهبه، ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنْ هناك بعض النصوص التي سلمت واستطاع بعض العلماء أن يستخرجوا منها الأدلة المشيرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ... فلما كان هو واحدًا من الأنبياء والرسل، وخاتمهم فالتبشير به يبين منـزلته وفضله عليهم، والفضل كله من الله له ولهم. 

وثانيًا: أن لفظ "أحمد" جاء على صيغة التفضيل "أفعل" أي أفضل وأحسن ... أي أنه أفضل من كل الأنبياء السابقين له، فلما كان هو خاتمهم، وأفضلهم، فلن يأتيَ الله عز وجل بعده بنبي مرسل هو دونه في الفضل ... لقد أتى الله بأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليهم السلام، وكانوا دونه في الفضل، - الفضل زيادة تعطى لأحد فوق ما أعطي أمثاله، والله فضل بعض النبيين على بعض- لأنهم أتباع للتوراة، هم دعاة لها، ومصححون لتحريف بني إسرائيل لها، وخروجهم عن الشرع الذي شرع لهم فيها، أما القرآن الكريم فهو محفوظ من الله تعالى، وما فيه يغني عن بعث الرسل، وتجديد الدين بهم، ولو كان هناك رسول سيبعثه الله بعد محمد صلى الله عليه وسلم لبشر به، ولوجب أن يكون أكثر منه حمدًا، وينـزل عليه كتابًا أعظم من القرآن .... فكيف إذا صرح في القرآن بكل وضوح أنه خاتم النبيين، وتصريحه صلى الله عليه وسلم أنه لا نبي بعده. 

وثالثًا : أن وصف عيسى لمحمد عليهما الصلاة السلام بـ"أحمد" موجه لبني إسرائيل الذين أرسل إليهم، ولكل من آمن به أن يؤمن به، لأنه أحمد الأنبياء والرسل، وحتى لا يغتر أحد منهم بعد ذلك فيجعل لسبق زمن أنبياء بني إسرائيل - ابتداء بأولهم موسى عليه السلام إلى آخرهم عيسى عليه السلام - فضلاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه جاء بعدهم فيصرفهم ذلك عنه، ويحجبهم عن الإيمان به، بغير عذر لهم من الله في عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون في ذلك هلاكهم. 

ورابعًا : أن في قول عيسى عليه السلام إقرارًا منه أمام بني إسرائيل أنه ليس خاتم الأنبياء، وأن ما يريده الله من البشر لم ينته بعد، وسيأتي من بعده من يختم مهمة الأنبياء، وأن ما سينـزل عليه فيه الكفاية لهم حتى نهاية الحياة الدنيا، دون الحاجة لنبي أو كتاب بعده. 

وخامسًا : أن عيسى عليه السلام جعل من نفسه بشرى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقرب مبعثه، ... وذلك أن أبانا آدم عليه السلام تلقى من ربه كلمات فتاب عليه ووعده بأنه سيعيده إلى الجنة وذريته ممن آمن وعمل صالحًا، وأن الله تعالى ابتلى خليله إبراهيم أبا الأنبياء عليه السلام بكلمات فأتمهن، ووفى بهن، فجعله للناس إمامًا، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وأن الله عز وجل كلم بعده موسى عليه السلام تكليمًا، وأرسله إلى فرعون ألد أعدائه من الإنس، وجعل عيسى عليه السلام كلمته، فحفظه بالوفاة والرفع، حتى يتلقى كلماته عندما يحين نزولها، وجعله الله بشرى بنـزول كلماته، على أحمد الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن الكريم، ولا شك فيه أن من خصه الله بنـزول كلمات الله عليه، ونال ذلك الفضل، هو أفضل وأحمد الأنبياء والرسل جميعًا، كما صرح بذلك عيسى عليه السلام، لأن كلمات الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، وهي خالدة في الدنيا والآخرة. 

 لقد خلق الله الإنس والجن لعبادته، وقد حددت عبادته بكلماته، وإن رافق أداءَ الكلمات هيئات وأوضاع معينة لجسم الإنسان، أو بعض أعضائه، كالقيام، والركوع، والسجود، لكن تبقى الكلمات هي لب العبادة ... وقمتها في الدعاء، حيث يكون الاتصال بين العبد وربه في أعلى درجاته، وفيه توجه الكلمات إلى الله، جاء في المستدرك على الصحيحين (رقم 1802) حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )، وتمام الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) غافر، فجعل ترك الدعاء هو الاستكبار عن العبادة.  

وأعلى درجات العبادة بالكلمات هي أن تكون هذه الكلمات من الله نفسه، وكلماته أيضًا قد احتوت كل عبادة أخرى لله. 

ولما لم يكن للإنسان حول في أن يرقى باللغة إلا بعد زمن طويل كانت كلمات الله هي آخر ما أنزله سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن وصل الإنسان إلى الدرجة المطلوبة من القدرة على البيان والفصاحة، .... والقوم الذين خصهم الله تعالى بذلك هم العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، لأن لغتهم هي الأوسع، والأشمل، والأعظم، من دون كل اللغات البشرية، في عدد جذورها وكثرة مفرداتها ودقة تفاصيلها، والأجيال التي أتت بعد نزول القرآن لم تصل إلى فصاحتهم، لأن فصاحتهم سليقة وفطرة فيهم، وفصاحتنا تدريب على فصاحتهم .  

أما اسم الله تعالى فذكر (2369 مرة)، ولا تكاد تكون هناك ثلاث آيات متتالية في القرآن إلا ما ندر؛ إلا ويذكر فيها الله بأحد أسمائه، أو يكون فيها ضمير ظاهر، أو مستتر، أو اسم موصول، يعود على الله سبحانه وتعالى، يقول لك فيها: بأن هذه الآيات من الله، وأن الذي يكلمك في هذا الكتاب هو الله عز وجل، ولو تصفحت أي كتاب في الدنيا لغاب صاحب الكتاب من بين أسطر الكتاب، أو في صفحات كثيرة متتالية منه، إلا القرآن الكريم، فهو الكتاب الوحيد الذي يذكرك بشكل متواصل على أنه من عند الله، وأن هذا الكتاب الذي بين يديك هو القرآن الكريم، كتاب الله، وأن المواضيع التي يتكلم الله سبحانه وتعالى عنها في القرآن؛ من أمور الغيب، وبداية الخلق، وأحداث يوم القيامة، وخلق السماوات والأرض وما فيهن، والجنة والنار، لا يصح لأحد من البشر أن يتكلم فيها دون أن ينسبها إلى الله، فضلاً عن أن ينسب أحداثها إليه، وكثير من سير الأنبياء وقصصهم، وتكذيب الأمم السابقة وهلاكهم، مما كان مجهولاً عند أهل الكتاب والناس جميعًا ومواضيع كثيرة عن الماضي المنتهي، أو الحاضر القائم، أو عن المستقبل المغيب من الدنيا أو الآخرة، ومما لا يعرف حقيقته إلا الله عز وجل قد بينه تعالى للناس.